في دول العالم، توجد مجتمعات صغيرة وأخرى كبيرة، طبيعة العلاقات تختلف في كل مجتمع، تبعا لعامليْن، الأول حجم المجتمع البشري، الثاني طبيعة التنوع الثقافي في هذا المجتمع، فمثلا هنالك مجتمعات كبيرة كالهند والصين التي توجد فيها مئات اللغات والثقافات المختلفة عن بعضها، ومع ذلك لم يكن ذلك مصدر تفريق أو تعقيد لهذا المجتمع بل عنصر قوة وتفاعل وتميز.
فدولة الصين تعد اليوم من أقوى دول العالم في السياسية والاقتصاد، وفي الثقافة والرياضة والفنون تعد من الأمم المتقدمة، مع أنها تنطوي في نسيجها الاجتماعي على مكونات متعددة لها ثقافات مختلفة وتتكلم وتقرأ وتكتب بلغات مختلفة أيضا، ولكن كل ذلك لم يفتّ في عضد هذا المجتمع الذي يعد أكبر تجمع بشري في العالم يعيش في دولة واحدة ويخضع لحزمة قوانين واحدة على الرغم من حالات الاختلاف الثقافي واللغوي والعرفي بين مكوناته التي قد تبلع أعدادا غير مسبوقة.
تؤكد المعلومات المتوافرة من المصادر أن التنوع الثقافي يمثل "التراث المشترك للبشرية" وفقاً للإعلان العالمي لليونسكو المتعلق بالتنوع الثقافي، ويرى المعنيون في هذا التخصص أن التنوّع الثقافي يشكل الآن أشدّ القضايا العصرية إلحاحاً، والسبب يكمن في الروابط والمشتركات الواسعة التي يتيحها تنوع الثقافات لتعزيز العلاقات بين أمم وشعوب العالم، وبين مكونات المجتمع الواحد أيضا.
في الهند كذلك الذي يبلغ تعداد شعبها قرابة المليار وربع المليار نسمة، هنالك أديان متعددة، وجماعات مختلفة، وأقليات لا تشبه بعضها البعض، ومع كل هذا الاختلاف تمكن المفكرون الهنود والسياسيون المخلصون والمثقفون من جعل هذا المجتمع أكثر انسجاما وتقاربا، وتمكنوا من تذليل المصاعب والاختلافات فيما بينهم، وتحولت نقاط التضاد الى ركائز للتعاون فيما بين المكونات المختلفة، حتى بات المجتمع الهندي من أفضل شعوب العالم ثقافة وتقدما.
في العراق ثمة تنوع في التركيبة المجتمعية، من حيث الأعراق والأديان والمذاهب والأقليات المتنوعة، وكل من هذه المكونات لها نمط ثقافي عرفي مختلف، ولكن في الحقيقة يتواجد هؤلاء جميعا في محيط مجتمعي واحد، يُطلَق عليه المجتمع العراقي، حيث تتواجد الأقليات والمكونات العرقية الكبير في محيط جغرافي واحد ويخضع الجميع لنظام سياسي اقتصادي واحد، كأن الجميع منصهرون في بوتقة واحدة، الأمر الذي بات يشكل مصدر قوة للمجتمع وللدولة معا.
المشتركات الجامعة لمكونات المجتمع
يمثل التنوع الثقافي مصدر قوة للمجتمع، لاسيما اذا بلغ هذا المجتمع مستوى ثقافيا متطورا، إذ لا يمكن أن نجد الانسجام في مجتمع متنوع ثقافيا وفي نفس الوقت لا يمتلك القدرة على توظيف المشتركات لصالحه، لهذا لابد أن تكون هناك قدرة واستعداد داخل مكونات المجتمع تدفع بها الى التقارب وتذويب الخلافات فيما بينها، والابتعاد عن الضغائن والأحقاد والتنبّه للجهات التي تصبّ الزيت على النار كما يقال.
العراق كمجتمع يتميز بالتنوع، لهذا حاول أعداؤه أن ينفذوا من الثغرات كي يثيروا الفتن بين مكوناته، ولكن كانت هناك قدرة للمجتمع العراقي على قلب المعادلة واستثمار التنوع الثقافي لصالحه من خلال حالة التآزر والتداخل الثقافي بين المكونات، حتى باتت عنصر قوة للمجتمع فيما أرادها الآخرون عنصر صراع لكنهم لم يفلحوا في ذلك.
هناك سعي وجدية لتعزيز التفاعل المجتمعي بين العراقيين على الرغم من أنهم مختلفون في الانتماء الفرعي الثقافي، ذلك أن قضية التنوع تتطلب تعزيز المشتركات الإنسانية، ونشر ثقافة احترام الآخر، والحث على التعاون معه، بكل ما ينطوي عليه من خصوصية قد تتقاطع أحيانا مع غيره من الأفراد او الأقوام، ونظرا لصعوبة تحقيق مثل هذا الهدف بسبب التمسك بـالخاص على حساب التنوّع والتشارك والتلاقح الإنساني، فإن الحاجة للعقل الأخلاقي تبدو كبيرة، لسبب يبدو واضحا يتمثل بأن هذا العقل هو السبيل الوحيد لتقليص فجوة الاختلاف الثقافي بين مكونات المجتمع الواحد.
في كتاب متميز وعميق بأفكاره، استطعت أن أحصل على رؤية عميقة لمستقبل التجمع البشري، فقد اقترح مؤلف هذا الكتاب الذي يحمل عنوان - خمسة عقول من أجل المستقبل- سلسلة من العقول، أو خمسة عقول، بعضها يقود الى البعض الآخر، ويعمل في خدمته والوصول إليه، في سلسلة عمليات إجرائية وفكرية متواصلة، تنتقل بالانسان من العقل التخصصي الى العقل التركيبي الى العقل الإبداعي الى العقل المحترِم وصولا الى العقل الاخلاقي بالنتيجة.
فما هي ميزة العقل الاخلاقي ومؤهلاته، ولماذا تحتاجه البشرية لتعزيز التنوع الثقافي؟ هذا التساؤل المهم ربما يضعنا على عتبة مرحلة مهمة من مراحل التقارب بين المجتمع البشري على الصعيد العالمي أولا، ومن ثم على صعيد المجتمع الفرعي ونعني به (مجتمع الدولة الواحدة).
تفضيل مصلحة الآخر على الذات
من أرقى الصفات والخصال الإنسانية، عندما يتمكن فرد أو مجموعة أفراد، أن يقدموا مصلحة الآخر على مصلحتهم الذاتية، فهذا يعد من أندر السلوكيات والأفكار، ويمثل قفزة في تعضيد العلاقات الثقافية بين المجتمعات المختلفة داخل المجتمع الواحد أو في إطار العلاقات التي تقوم بين المجتمعات الكبيرة للدول على سبيل المثال.
في هذا الكتاب المهم يحاول المؤلف أن يعرّف العقل الأخلاقي، فيقول عنه بأنه العقل الذي يفضّل مصلحة الآخر على مصلحة الذات، بمعنى أوضح، إنه عقل إيثاري، فهو يضع مصالح ومنافع الآخرين فوق مصالح ومنافع الأنا، هذا هو العقل الذي قادت إليه سلسلة من العقول الخلاقة، وهو قادر على أن يحقق فتحا واسعا وشاملا للعالم، في مجال تعزيز التشارك والتعاون والتكافل والاحترام، ولا شك أن التنوع الثقافي يكون عمالا مساعدا لصناعة هذا النوع من العقول التي يحتاجها العالم ومنه العراق بطبيعة الحال.
إن التنوع الثقافي بمزاياه الواسعة يمكن أن يكون نافذة تقود المجتمع الى التقارب والانسجام والتعاون والتفاعل البنّاء، أما الكيفية التي يمكن من خلالها تحصيل العقل الاخلاقي، فإن غاردنر يقدم للعالم حزمة من الخطوات الاجرائية والفكرية في كتابه المذكور، والتي قد تبدو مثالية أحيانا، ففي جميع الأحوال ليست هناك فرص كثيرة أمام البشرية سوى أنها تسعى نحو تعزيز هذا النوع من العقول والعلاقات التي يعززها التنوع الثقافي ويعطيها دفعة قوية الى أمام نحو التعاون والتقارب وتعزيز المشتركات.
من هنا لابد أن تتخذ الخطوات والإجراءات التي تسعى لتنمية التنوع الثقافي وتجعل منه عاملا مساعدا للتعاون البشري، ويمكن بدوره أن يسهم بقوة في القضاء على بؤر التطرف ومنابع العنصرية باشكالها المختلفة، وكذلك يُسهم بقوة في تنمية الموارد والطاقات والمواهب الفردية والجماعية، ويساعد على بث روح الحوار البنّاء بين الجماعات ما يؤدي بالنتيجة الى تجاوز الأزمات وتحييد الفتن والتوترات بين التجمعات البشرية بمختلف أنواعها.
لهذا ينبغي أن يتم استثمار مزايا التنوع الثقافي في العراق، حيث الأقليات المتعددة ينبغي أن تصب في صالح المجتمع، كذلك فإن الفسيفساء الذي يتشكل منه المجتمع العراقي يجب أن يكون مصدر قوة له، وليس منتجا لحالات الاختلاف وتضارب المصالح وبالتالي إضعاف حالة التعاون المجتمعي التي يحتاجها العراقيون بقوة في هذه المرحلة من مراحل حياتهم السياسية والثقافية والاجتماعية الحساسة.
اضف تعليق