هل هناك فارق كبير بين الوطن والحاكم؟، نعم ثمة فوارق كثيرة وليس فارقا واحدا بين الأوطان والحكام، فالوطن له ثقل معنوي لا يُضاهى، وثمة علاقة وثيقة تنعقد بين المكان والانسان، علما يمكن أن تكون هذه العلاقة جيدة أو ملتبسة وفقا لما يقدمه المكان للإنسان، بهذا المعنى لابد أن يقدم الوطن - المكان- للانسان مزايا وفوائد، لكي تنعقد بينهما علاقة جيدة ووثيقة.
في تعريف الوطن والخوض في مفهومه ظهرت معانٍ وتعاريف كثيرة، منها ما يؤكد أن الوطن هو (بقعة من الأرض يقوم الإنسان بالسكن عليها ومع مرور الزمن تصبح علاقته بها علاقة محبة وشعور بالانتماء، فيصبح الوطن هويتنا وخصوصيتنا التي نحاول دائما الحفاظ عليها) وثمة تعريف آخر للوطن في المفهوم المعاصر ينص على أنه (الدولة التي ولد فيها الإنسان الذي يحمل جنسيتها تبعاً لآبائه وأصوله الذين توارثوا هذه الجنسية، وقد تمنح الدولة شرف المواطنة – الجنسية- لمن لم يولد، أو ولد على أرضها، إذا كانت مصلحة الوطن تستدعى ذلك).
إذن هناك اشتراطات مختلفة يمكن أن تتوافر في العلاقة بين الطرفين، المواطن والوطن لتحدد طبيعة تلك العلاقة بينهما، وأمر بديهي عندما يتعرض الانسان في الارض او المكان الذي يتواجد فيه الى مشاكل وانتهاكات وتجريح وهضم للحقوق، فإن تلك الارض او المكان سوف يكون محل امتعاض الانسان، حتى لو وُلد فيه واصبح وطنا له، اذاً فالعلاقة بين الطرفين قائمة على واجبات وحقوق متبادَلة، اذا تحققت والتزم بها الطرفان، فإن الوطن سوف يطبع (ذاته وحسناته) في اعماق المواطن لا شعوريا، وسوف يشكل حضورا لا يمكن أن يُزاح من مشاعر وذاكرة الانسان.
هنا سوف تبدأ الاشكالية التي يحاول أن يثيرها الحكام (المستبدون منهم على وجه الخصوص)، فهذا النوع من الحكام لا تروق له علاقة طيبة بين الوطن والمواطن، لهذا يسعى هؤلاء الحكام الى تخريب دور الوطن تجاه المواطن، لسبب واضح، حتى يأخذ الحاكم محل الوطن لدى المواطن، ويكون الاخير محتاجا دائما الى الحاكم وليس الى الوطن، فالوطن الذي لا يمنح المواطن حقوقه في العيش الكريم والتعليم والتطبيب وفرصة العمل وحرية الرأي والتعبير وسواها، هذا النوع من الاوطان، لا يمكن أن يكون محط احترام المواطن وتمسكه به، لهذا غالبا ما يقوم الحكام المستبدون بإقصاء دور الوطن تجاه مواطنيه وإلغاء هذا الدور، ويأخذ الحاكم على عاتقه تقديم هذه المزايا للناس، ولكن بشكل صوري ملتبس ومخادع، يقوم على اطلاق الوعود المزيفة، والأمل الكاذب، وكأن الحاكم يقوم بعمليات تخدير متواصلة للشعب من خلال الوعود والتصريحات الكاذبة، وهكذا يضرب الحاكم المتجبّر عصفورين بحجر واحد، هما المواطن والوطن في الوقت نفسه، فضلا عن تحقيقه لمنافعه ومكاسبه وامتيازاته هو وذويه وحاشيته ومعاونيه في الوقت نفسه.
وهكذا يتضح لنا أن الحاكم عندما يجعل العلاقة ملتبسة بين الوطن والمواطن، إنما يهدف الى تكريس سلطته، وجعل الشعب محتاجا لشخصه حصرا، وصاحب الحاجة غالبا ما يكون مطيعا لمن يلبّيها له، من هنا تبدأ حالات خنوع جماعية، تجعل الشعب (من دون أن يعرف ويشعر)، أسيرا للحاكم، الذي يقدم بعض العطايا والحاجات للشعب لذر الرماد في العيون، وما تبقى من موارد (الدولة والوطن) سيكون من حصته هو وذويه ومعاونيه، وهذا تحديدا ما أكدته لنا تجارب قريبة وبعيدة، لشعوب عانت الأمرّين من حكامها لاسيما في البلدان العربية والاسلامية.
وبهذا السلوك السلطوي القائم على القمع والقهر والخداع والتجويع، يكون الشعب محتاجا للحاكم اكثر من الوطن، بل الوطن كله وبكل مزاياها يتم اختصاره بشخصية الفرد الحاكم، وغالبا ما يكون هذا الاخير بديلا للوطن في الدول ذات الانظمة الفردية الدكتاتورية، فيبقى الشعب خانعا وخاضعا لإرادة الفرد الحاكم، وفي الوقت نفسه يكون كارها للوطن الذي لم يلبِّ احتياجاته وحقوقه، في حين أن هذا العجز في عدم قدرة الوطن على تلبية حاجات مواطنيه، لا يعود للوطن، بل الحاكم المستبد الذي أقصاه عن دوره، من خلال كونه الصانع الوحيد للقرار السياسي، والمتحكم الأوحد بمصير شعب كامل، فينجرف المواطن في هذا الحالة ضمن انسياق جماعي، الى الخضوع للحاكم (الموظف في حقيقة الامر بالدولة)، مبتعدا عن تمسكه بالوطن العاجز عن حمايته وتلبية احتياجاته للعيش بكرامة.
لذلك نلاحظ في الامم والدول المتطورة، لا يستطيع الحاكم أن يأخذ دور الوطن، بسبب وجود المؤسسات وقوة الدستور والانصياع للضوابط والقوانين السارية والمؤسسات المستقلة، فيكون الحاكم او الرئيس هنا موظفا حكوميا لا يختلف عن غيره من موظفي الدولة، إلا بحجم المسؤولية والصلاحيات المثبتة دستوريا، ليبقى في آخر المطاف موظفا حكوميا لا اكثر، ولا يجوز له استثمار منصبه ونفوذه لتحقيق منفعة فردية او عائلية على حساب المال العام وموارد الشعب والدولة، أما الحاجة الى الحاكم فلا تظهر إلا في الدول المتأخرة المُقادة بأنظمة سياسية فاشلة بسبب الاستبداد، حيث يحتاج الناس الى الحاكم، لأنه يحصر بشخصه، جميع وظائف ومسؤوليات الوطن تجاه الشعب.
اضف تعليق