ربما يكون من السهل إصدار حكم الإلغاء على التجربة الاسلامية في إدارة الدولة أو تأسيس نظام حكم في العراق يفي بالشعارات والوعود الكبيرة، بيد ان القضية بحاجة الى دراسات معمّقة تبحث في الاسباب والخلفيات، اكثر من حاجتها الى التسرّع والتطاول بالاستفادة من أجواء ضبابية تعيق الرؤية الصحيحة وتدفع الى استنتاجات خاطئة، كون هذه التجربة ليست نتاج نظريات فكرية ارتدت ثوب السياسة وخرجت الى الساحة على شكل احزاب سياسية تتمنطق الايديولوجيا وتشهر سلاح الشعارات البراقة التي شهدنا في القرن الماضي كيف انها كانت ترغّب الناس تارةً وترهبهم وتميتهم تارةً أخرى، إنما هي تجربة تعود الى عمق التاريخ الاسلامي وناصيته، وتحديداً الى تجربة حكم الامام علي، عليه السلام، الذي كتب القدر أن تكون التجربة الاسلامية على يديه في الكوفة، وهي آنذاك كانت عاصمة الدولة الاسلامية، وأكبر حامية للجيش الاسلامي، وهي بدورها استقت نجاحها من أول تجربة حضارية رائدة على يد النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، بمعنى أن القضية اكبر من ان تتحدد في أشخاص مهما بلغوا وادعوا.
هل نستعين بنظرية المؤامرة؟!
في اواسط القرن الماضي تبلورت رؤية لنظام حكم اسلامي في اوساط شريحة مثقفة وواعية يتصدرها علماء الدين وابناء الحوزة العلمية، فتم تدوين نظريات وافكار نهضوية تدعو الى التغيير والبناء الاجتماعي والسياسي وفق قواعد اسلامية، بيد أن المشكلة كانت في التطبيق العملي على ارض الواقع، فقد واجهت هذه التجربة الفكرية الجديدة – إن صح التعبير- تحديات ماحقة في ساحة سياسية ملتهبة لم تحسب لها حساب المواجهة العنيفة، فكانت النتيجة؛ تضحيات جسيمة وجهود جبارة دون طائل، والسبب الرئيس في ذلك – من جملة اسباب- عدم وجود القاعدة الجماهيرية العريضة المستوعبة لهذه التجربة، فكانت الشريحة المتفاعلة عبارة عن الطبقة المتوسطة التي لم تكن متشكلة آنذاك لتؤدي ذلك الدور المحوري المعروف في الثورات والتحولات الكبرى، حيث المتعلمين والتجار والمهنيين والمثقفين كانوا الأقلية وسط سيل عارم من عامة الناس الذين كانوا هم بحاجة لمن ينقذهم من الأمية والحرمان.
يضاف الى ذلك؛ العامل السياسي الداعم لجميع القوى السياسية لمساعدتها على الوصول الى قمة السلطة، فيما كانت الحركة الاسلامية وحيدة في ساحة واسعة، فقد كان الدعم الدولي والاقليمي واضحاً في صعود الاحزاب السياسية في العراق آنذاك.
أما في تاريخ ما بعد 9 نيسان 2003 فان الفرصة التاريخية اقبلت مستبشرة لابناء الحركة الاسلامية بأن تكتب تاريخاً جديداً لها ولتجربتها التي طالما تحدثت عنها في الأدبيات والخطابات طيلة عقود من الزمن، فهل بعد ذلك من مبرر للحديث عن المؤامرة الدولية والاستعمارية...؟!
لنتذكر دائماً الامام علي، عليه السلام، وتجربته في الحكم، على أن فيها جانباً يتطابق مع تجربتنا الراهنة في العراق، فهو واجه تحديات عنيدة لتقويض حكمه من أعداء في الداخل والخارج، بيد إن هذه التحديات والسيوف التي سُلت عليه، لم تمنعه من أن يكتب للتاريخ والاجيال الشكل النموذجي للدولة المستقيمة وعلاقتها التكاملية مع المجتمع، بحيث يضمن الناس حقوقهم وتستوفي الدولة منهم الواجبات والالتزامات.
التجربة ملك الجميع
إن الحديث عن السعادة والأمان والرخاء وسيادة القيم الفاضلة والقانون في ظل الاسلام، ليس من قبيل الشعارات الفارغة او النظريات المجردة من المصداقية، إنما هي حقائق خبرتها الاجيال وسجلها التاريخ كعهود ذهبية عاش فيها المسلمون تقدماً حضارياً بمعنى الكلمة، فلا فقر ولا بطالة ولا أمية ولا تبعية، ومن يربط هذه التجربة بأشخاص فاشلين ومصابين بأمراض نفسية، فانه يرتكب خطأ علمياً ويجافي المنطق السليم.
إن القائمين على التجربة الاسلامية في العراق، ربما يشبهون الى حد كبير مستوى الادراك الذي وصلته تلك الفتاة المسلمة في إحدى الدول الاسلامية عندما سألوها القدوة الصالحة في حياتها وما اذا كان يمكن ان تكون الصديقة فاطمة الزهراء، عليها السلام، فسارعت الى الرد بالنفي بأن "الزهراء تعود الى فترتها التاريخية الخاصة بها، أما اليوم فنحن بحاجة الى نموذج عصري جديد مثل الفنانة ....." وكانت تشير الى بطلة مسلسل ياباني شهير.
إن المشكلة ليست في هذه الفتاة او غيرها من ابناء الجيل الجديد الذي يشكو التضبب في الرؤية والعجز عن الوصول الى الصورة الصحيحة لما يُحييهم وينقذهم من الازمات والمشاكل التي يعانون ليس في هذا البلد او ذاك، وإنما في عموم البلاد الاسلامية.
وبما أن التجربة القائمة في العراق تتميز بفرص التطور والنجاح اكثر من أي مكان آخر في العالم الاسلامي، فان الشعب العراقي بامكانه استشعار التغيير نحو البديل الحضاري المرتجى على يد النخبة المثقفة التي تأخذ على عاتقها التغيير الحقيقي الذي تلتقي فيه النظرية مع التطبيق:
أولاً: ايجاد الديناميكية في المجتمع
ان بناء المجتمع على أساس القيم الصحيحة والعمل الصالح، يعطيه ديناميكية في الاتجاه الصحيح، والعكس يكون صحيحاً ايضاً، فالمجتمع البشري – بالاساس- هو مثل النهر الهادر يمتلك طاقة هائلة، فاذا تم توجيهه في الاتجاه السليم وحفرت له قنوات ملائمة، تحركت هذه الطاقة عبر هذه القنوات وأعطت ثماراً طيبة.
مثال ذلك؛ المجتمع الالماني في مطلع القرن العشرين، فقد كان له الفضل في تقدم الفكر البشري والعلوم الحديثة، وكان يتفجر حيوية واندفاعاً نحو التطور التقني والعلمي، بيد أنه ابتلي بالتوجه القومي الذي أوهمه بأنه الأقوى والافضل في العالم، فبدلاً من مواصلة مسيرة التطور والتفوق العلمي على سائر الدول الاوربية والعالم بأسره، تحرك في مسيرة التسلّح بأحدث المعدات العسكرية مستخدما العقلية المبدعة في انتاج وسائل الدمار والموت، فكان سبباً في دماره ودمار العالم.
وبالامكان ملاحظة ومتابعة هذه القيم الصحيحة والبناءة في عهود اسلامية ماضية، وكيف أن المسلمون كانوا يمثلون نماذج مشرقة لسائر شعوب العالم، فكان أهل الصين والهند وافريقيا وغيرها من الارجاء، تدخل في دين الله افواجاً، ليس من خلال حملات تبليغية او برامج حكومية معدة لهذا الغرض، وإنما من خلال الصفات والخصال التي كان يحملها التجار والرحالة، وكانت تنساب منهم عفوياً ويلتقطها الناس في تلك البلاد بكل لهفة وتعطش.
ثانياً: النظام قبل كل شيء
يؤكد علماؤنا على حقيقة أن الاسلام يرفض الفوضى جملة وتفصيلا، ويدعو الى سيادة القانون والنظام في المجتمع، وأول من بين هذه الحقيقة الامام علي، عليه السلام، بقوله: "لابد للناس من أمير برّ أو فاجر"، فالسلطة والحكم التي يتحدث عنها البعض ممن يطلق عليهم بالاسلاميين، لا يمكن ان تكون على حساب النظام العام، مهما كانت الوعود والشعارات بضرورة إقامة العدل والمساواة والاحتكام الى القيم والمبادئ، فانها تبقى مسائل نظرية لا تلمس ارض الواقع اذا شبت فيه نار الفوضى، فلا يجد الانسان البسيط حقه في العيش بأمان وكرامة.
ولعل القرآن الكريم خير من يؤكد هذه الحقيقة الحضارية الناصعة، عندما يحدثنا عن تجربة النبي موسى، عليه السلام، وكيف أنه خطاب فرعون لهدايته وتغيير عقيدته، قبل تغيير نظام حكمه والانقلاب عليه، كما يحصل اليوم، ولذا نلاحظ أن فرعون، مثل أي طاغية آخر حريص على السلطة، فانه سارع الى اتهام النبي موسى بأنه يريد هدم نظامه وإشاعة الفساد والفوضى بين مجتمع بني اسرائيل، وبالامكان مراجعة آيات عديدة في غير سورة مباركة تذكر الحوارات بين فرعون وموسى في هذا الخصوص.
وهذا ينسحب على أي مشروع تغييري وإصلاحي يُراد منه استبدال وضع فاسد بآخر صالح، فما شبّ عليه قوم من سلوك وعادات ومنهج في الحياة خلال سنوات مديدة، ليس من السهل إلغائه بين ليلة وضحاها، إنما يحتاج الأمر مراحل وخطوات عدة لعل أولها استيعاب عناصر الفساد وتقويم الانحراف بالتي هي أحسن، بعيداً عن اساليب القهر والتنكيل والإقصاء ومصادرة حرية الفكر والتعبير.
واذا جرت علمية التغيير والإصلاح وفق الاساليب الحضارية، فان الشعب العراقي وأي شعب آخر، يكون هو بنفسه صاحب المبادرة في مشروع التغيير الذي يرجوه، عندما يشعر بكل حواسه، بأن القضية تعنيه من البداية الى النهاية.
اضف تعليق