تعد مدينة تمبكتو وسط دولة مالي غرب افريقيا، من الحواضر الاسلامية العريقة، في أوجها الحضاري كانت تسمى "جوهرة الصحراء المتربعة على الرمال"، وعندما غزاها الفرنسيون أطلقوا عليها "ليون افريقيا"، لما كانت تحظى بأهمية من الناحية الجغرافية، حيث ملتقى القوافل التجارية من الشمال الافريقي باتجاه الجنوب الغربي، وايضاً من الناحية الحضارية، حيث تحولت هذه المدينة من القرن الرابع عشر الميلادي الى مناراً للعلم والثقافة والمعرفة، لتضاهي الحواضر العلمية الاخرى في العالم الاسلامي، وحسب المصادر فقد شهدت تشييد 1800 مدرسة ضمت حوالي 25الف طالب، فتخرج عشرات الفقهاء والعلماء في شتى الحقول.
والى جانب هذه المراكز شيدت مراقد لاشخاص يُسمون هناك بـ "الأولياء"، وهم حط إجلال وتقديس السكان، يتخذونهم وسيلة للتقرب الى الله في قضاء حوائجهم المستعصية مثل شفاء الامراض وهطول المطر ومكافحة الفقر وغيرها، ولعمق الحالة الايمانية في هذه المدينة، عُرفت بمدينة "333" ولي، لكثرة المراقد والمشاهد المقدسة هناك، وفي عام 1988 تم إدراج بعض هذه المراقد على لائحة التراث العالمي من قبل منظمة "يونسكو"، فبقيت مصونة وسالمة، رغم تهديد الظواهر الطبيعية لها بالدمار، مثل الامطار والعواصف الترابية وغيرها، كونها مشيدة من مادة الطين وحسب، حتى جاء اليوم الذي يكون الوجود الفرنسي في دولة مالي على موعد لمواجهة عنيفة مع جماعة أنصار الدين المتطرفة التي تستقي افكارها من تنظيم "القاعدة"، عام 2012 عندما احتلت مناطق في شمال البلاد، منها مدينة تمبكتو، وتسيطر عليها لمدة عشرة أشهر، وقبل أن تفكر بمصداقية تحركها ضد من تعدهم بالمستعمر الفرنسي "الكافر"، انحرفت نحو هذه المراقد بمعاولها وأزاميلها لتهدم تسعة مراقد يعود تاريخ تشييدها الى قرون خلت.
ومنذ ذلك الحين، لم يتحدث أحد عن تلك المراقد المهدمة، إلا مؤخراً عندما بدأت محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، بمحاكمة أحد قادة الجماعة المتطرفة، والمشرف على هدم تلكم المراقد، ليتصدر الحدث أولوية بعض وسائل الاعلام العالمية، ورغم إن الجماعة المتطرفة تعد وجود المراقد، دلالة على الشرك بالله، ولابد من تدميرها، شهد العالم أن المدعو أحمد الفقي المهدي، يعترف بخطأه ويطلب الصفح من الشعب المالي على ما قام به من انتهاك لحقوقهم في ممارسة شعائرهم، والمثير أن محامي هذا القيادي المتطرف يقول لوسائل الاعلام: "إن موكله يريد الاعتراف بذنبه لانه مسلم يؤمن بالعدالة"!.
والقضية برمتها، تُعد نصراً كبيراً لحرية العبادة وتكريماً للهوية والانتماء بغض النظر عن الخلفيات والدوافع، فالسكان في تمبكتو تحديداً شعروا باسترداد كرامتهم التي انتهكها المتطرفون بدعوى تطبيقهم الشريعة الاسلامية، بيد أنهم لم يشهدوا تفجر نزاع مسلح وأعمال ارهابية على خلفية أعمال الهدم هذه، إنما كانت الازمة تدور رحاها بين هذه الجماعة المتطرفة، وبين الحكومة المدعومة فرنسياً، وبعد شد وجذب، تمت تصفيتهم وطيّ صفحتهم نهائياً من المنطقة عام 2013 باقتحام المدينة من قبل قوات دولية برعاية فرنسية.
ولكن؛ الذي حصل في مدينة سامراء في شهر شباط عام 2006 عندما اقتحم عدد من العناصر الارهابية مرقد الامامين العسكريين، عليهما السلام، وقاموا بتفخيخ المرقد الضخم بالكامل ثم نسفه وتدمير القبة والمأذنتين، كان بمنزلة النافذة التي أريد للعراق أن يسقط منها الى هاوية حرب طائفية دامية، بمعنى أن عملية تدمير المرقد كانت محاولة واضحة لإثارة النزاع الطائفي بين السنة الشيعة في العراق، وتكون سامراء البداية الى مناطق أخرى في العراق، يفترض ان تشهد أعمال انتقامية يقابلها رد بالمثل وهكذا.
وبعد يوم واحد على تلك الحادثة، خرجت صحيفة "الشرق الاوسط" السعودية بعنوان كبير على صدر صفحتها الاولى: "في العراق حرب طائفية وقودها الأضرحة"! وهذا وغيره يشكل سلسلة من الدعاوى الجاهزة في أي محكمة دولية يرافع فيها العراق ويدّعي على أطراف معروفة أرادت به شراً مستطيراً، بل وتسببت بإزهاق آلاف الارواح منذ ذلك التاريخ، وما تزال آثار المؤامرة قائمة في المدن التي يحررها الجيش العراقي والحشد الشعبي من احتلال "داعش".
ورب سائل عن كون مراقد الأئمة المعصومين في العراق، مسجلة في لائحة التراث العالمي أم لا؟ وهذا التساؤل يشمل سائر المراقد والمشاهد المشرفة التي طالها التدمير على يد "داعش" في الموصل و سوريا، وابرزها مقام النبي يونس في الموصل، بيد إن هذا لن يكون مبرراً للصمت وتجاهل فرصة استثمار الساحة الدولية لمقاضاة المتسببين بجريمة هدم مرقد الامامين العسكريين.
فمن حق أي دولة في العالم رفع دعوى الى محكمة الجنايات الدولية ضد جماعة ارهابية تسببت بسفك الدماء وإلحاق أضرار فادحة بشعب بأسره، وبما أن العراق وايضاً سوريا، من الدول غير الموقعة على "نظام روما" الذي يشكل القاعدة الداعمة لهذه المحكمة، فان بالامكان تقديم طلب لدى "قلم المحكمة الجنائية الدولية ليتم السماح للمحكمة بتوسيع اختصاصها ليمتد ليشمل أوضاعاً وحالات تتعلق بجرائم دولية وقعت ضمن الحدود الإقليمية للدولة غير العضو".
ومعروف عن محكمة الجنايات الدولية أنها لا تملك وسائل إنفاذ القوانين مثل الشرطة وأجهزة الأمن، مثل الشرطة الدولية، لذا فهي تعتمد بشكل كبير على التعاون بين الدول لتطبيق القوانين والنظم الخاصة بها، بما في ذلك طلبات الحصول على اعتقال وتسليم الاشخاص المتهمين بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب، وهنالك شروط عديدة يتم الاتفاق عليها بين الدول الراغبة بالعضوية او متابعة ملف ما، وبين هذه المحكمة الدولية، ربما من اهمها؛ الغطاء التشريعي من قبل البرلمانات بما يوفر الحصانة للمحكمة ويعطيها الغطاء القانوني لأجراء التحقيقات اللازمة، وايضاً حاجة المحكمة الى الاستقلالية واتباع معايير موضوعية لتطبيق القانون، بعيداً عن التأثيرات الجانبية في ذلك البلد.
إن مسألة رفع دعوى قضائية في المحاكم الدولية ضد الجماعات الارهابية التي تسببت في تدمير المراقد المشرفة في العراق، لا تنحصر في الاطار الديني والدفاع عن المقدسات وحسب، وإنما تشمل ايضاً البعد الاجتماعي والانساني، بمعنى؛ أن القضية تهم الشيعة كما تهم السنة ايضاً، عندما تحولت الافكار التكفيرية الى وقود لأعمال عنف طائفية، فقد استشهد الآلاف من الابرياء في الاسواق العامة والطرقات بفعل السيارات المفخخة والاحزمة الناسفة في مدن الوسط والجنوب، أما في مدن الانبار والموصل، فان آلاف النساء والاطفال باتوا ضحية الاحتلال الداعشي لمناطقهم، فمن اجل تحريرها عليهم مواجهة التشرّد في الصحاري والقفار والتعرض لشتى صنوف المعاناة والألم.
اضف تعليق