في الأول من آب الجاري عقد مجلس النواب العراقي جلسة اعتيادية، تم تخصيصها لاستجواب وزير الدفاع الحالي، لتتحول هذه الجلسة الى (وليمة فساد) من العيار الثقيل، فلأول مرة في تاريخ مجلس النواب العراقي، يتم كشف صفقات مشبوهة، وتجاوزات أخرى يعاقب عليها القانون، كالمساومة والابتزاز والتهديد وما شابه، والجديد في ذلك، أن التهم الموجَّهة طالت عددا من أعضاء مجلس النواب.
وقد تبيّن للمتابع العراقي، أن السلطة التشريعية العليا في البلاد، والتي تمثل أعلى سلطة رقابية في البلد، وتضم 320 عضوا يمثلون مختلف مكونات الشعب العراقي، أن هذه السلطة التشريعية الرقابية تضم من بين أعضائها نواباً فاسدين أو مفسدين، فهذا الاستجواب الذي استقدموا فيه وزير الدفاع بذريعة وجود فساد وتجاوزات على أموال الشعب، أدى بالنتيجة الى توجيه اتهامات عديدة وخطيرة الى عدد من أعضاء مجلس النواب بالأسماء، ومن بينهم رئيس المجلس، قام بتوجيه هذه الاتهام الشخص المستجوَب (فانقلب السحر على الساحر).
في هذه الجلسة برزت مساوئ ومحاسن، هنا أقدم ملاحظاتي هذه من وجهة نظر شخصية، قد يعترض آخرون على تعبير أو مفردة (محاسن)، وقد يرون أنها غير مناسبة بخصوص هذه الجلسة وما جرى فيها، كون الصدمة طالت الشعب بصورة مباشرة هذه المرة، فالجميع يتحدث عن حالات فساد، وعن انتشاره في دوائر ومفاصل حكومية ووزارات، وهناك وسائل إعلامية تعرض وتتحدث كثيرا عن الفساد المنتشر في الجسد العراقي، ولكن لأول مرة تطول ظاهرة الفساد أعضاء من مجلس النواب بصورة مباشرة، أي من صميم السلطة التشريعية وطالت رئيس هذه السلطة بصورة علنية أمام الملأ.
المساوئ واضحة ومعروفة طبقا للمثل القائل (حاميها حراميها)، فالشعب قد ائتمن هذه السلطة وأعني (مجلس النواب) كممثل مخلص له، ورقيب أمين على أمواله، ومدافع أصيل عن حقوقه، فكيف يتحول ممثل الشعب والرقيب على مصالحه، والمدافع عنه الى سارق له ومتجاوز على أموال وثرواته وحقوقه، هذه النقطة بالذات تعد من أكثر المساوئ ألماً وإلحاقا للأذى بالشعب، لهذا السبب هناك ألم وغصة في صدور العراقيين عندما كانوا يتابعون ما يجري في هذه الجلسة من وقائع مؤلمة ومؤسفة في وقت واحد.
نحن عندما نعرض هنا في هذه الكلمة للمساوئ، ليس غايتنا الإساءة لأحد، بقدر حرصنا على طرح وجهة النظر الخاصة بنا، وكيف رأينا ما حدث في هذه الجلسة، وكيف يمكن لنا أن نؤشر مكامن الخطورة، وما هي فرص المعالجة التي يمكن من خلالها، تحويل الخطأ الى خطوات متعاقبة نحو النجاح، وهذا أمر متفق عليه، فالشعوب التي سبقتنا الى الحرية، عاشت أسوأ مما نعيشه الآن، لكنها بالنتيجة أنشأت درعاً قانونا راسخا يحميها من الفاسدين.
ودّع (البزون) شحمة
في حديث نبوي شريف، يقول الرسول (ص): (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تَخُنْ من خانك)، وعندما نسأل الآن النواب الذين وردت أسماؤهم في الاتهام الذي وجهه لهم (وزير الدفاع)، عبر القنوات الفضائية بصورة مباشرة ونقلته وسائل الإعلام الأخرى، بماذا سيجيب هؤلاء، وماذا يقولون للشعب الذي ائتمنهم على أمواله وثرواته؟ وأين هم من هذا الحديث النبوي الشريف؟.
وهذه إحدى أكبر المساوئ التي أظهرتها هذه الجلسة العاصفة، بالإضافة الى ذلك لاحظ الجميع أو كل من أُتيحت له فرصة مشاهدة الشاشات الصغيرة وهي تعرض تفاصيل هذه الجلسة بصورة مباشرة وتنقل بالصوت الواضح الاتهامات التي وجهها وزير الدفاع، والمساجلات التي حصلت بعد ذلك بينه وبين المناوئين له، والذين كما تبين وكما أعلن الوزير المستجوَب شخصيا، بأنهم قاموا بمساومته على تخصيص عقود لهم، وإبرام صفقات معهم، وإحالة مشاريع على شركاتهم، او قضايا تعيين في دوائر ووزارات الدولة.
ومن المساوئ المؤسفة أيضا، أن تظهر هذه المؤسسة وكأنها (مدرسة ابتدائية) لا يعرف طلابها النظام ولا التنظيم، فقد ظهرت صورتهم على الملأ، وهم غير ملتزمين بالنظام، بل ديدنهم الفوضى، وكأنهم في ساحة هرج ومرج، وكأنهم لا يجلسون تحت قبة تمثل أعلى سلطة تشريعية في البلد، فقدموا بذلك صورة فوضوية غير جيدة لكل من كان يتابع حركاتهم داخل القاعة، ما يعكس عدم انضباطهم وهذا أمر يرسل إشارات سيئة للشعب الذي اختارهم ممثلين عنه.
وهناك مساوئ أخرى تتضمنها الاتهامات التي وجهها وزير الدفاع لبعض النواب بالأسماء، ومنهم إحدى النائبات التي ساومته حول إلغاء الاستجواب في مجلس النواب مقابل ملياري دولار؟، يحدث هذا في داخل السلطة التشريعية التي ائتمنها الشعب على نفسه وحاضره ومستقبله وثرواته وحياته، فتبيّن أنهم ليسوا أهلا للأمانة.
وقبل أن نخوض في بعض الإيجابيات التي أفرزتها وقائع هذه الجلسة النيابية، لابد من المرور بالإجراءات التي يتخذها القضاء ومفوضية النزاهة بحق هؤلاء النواب، والسؤال الأهم هنا من الذي يضمن محاكمة عادلة لهم، لا تتدخل في نتائجها الصفقات المريبة والترتيبات المتبادلة؟؟، إن نمر بمرحلة عصيبة، وخطيرة جدا.
لأن السلطة (الأم) التي كان الشعب العراقي يتأمل منها إعادة الأمور الى نصابها، ومكافحة الفساد والفاسدين كما يجب، تبين أنها تضم في صفوفها أعضاء ينطبق عليهم المثل الشعبي القائل (ودع البزون شحمة)، بسبب تهافتهم على المال الحرام وأنانيتهم، وعدم شعورهم وإحساسهم بالمعاناة الهائلة التي يتعرض لها الشعب الذي انتخبهم بنفسه.
ماذا يتمخض عن هذه الجلسة؟
وبعد أن أشبعنا الكلام عن المساوئ، لابد أن نمر على بعض المحاسن التي يمكن أن تفرزها جلسة الفاتح من آب النيابية، هذه الجلسة التي قلنا عنها، بأنها جلسة من طراز فريد، لم يمر بمثلها المجلس النيابي لا في العهد الراهن بعد نيسان 2003 ولا قبله، وعند الحديث عن بعض المحاسن لابد أن نشير الى تاريخ مجلس النواب ودوره في ظل الأنظمة والحكومات السابقة، الجمهورية منها والملكية أيضا.
ففي ظل الأنظمة الفردية التي وصلت الحكم عبر الانقلابات، كان مجلس النواب صوري شكلي، مؤسسة تصنعها الحكومة، كي تنعق بنعيق الحكومة وتنفذ ما يبتغيه الحاكم منها، وكلنا او كبار العمر منا يتذكر كيف كان يتم تشكيل مجلس النواب وما هي هوية أعضائه وكيف يتم انتخابهم، وما هو دورهم داخل قبة هذا المجلس، ويكفي أن نقول إن مجلس النواب في السابق، كان لا يجرؤ على نقد السلطة التنفيذية التي تجمع بيدها جميع السلطات.
من حسنات او محاسن وضعنا الراهن، أننا نمتلك مجلس نواب لا يخضع للحاكم، وإن شابه بعض الفساد، وإن كان رئيسه من ضمن النواب المتهمين بحسب ما صرّح به الوزير الذي تم استجوابه في الجلسة العاصفة، لكن لابد من القول، أن ما حدث في جلسة مجلس النواب في الفاتح من آب، هو درس جيد للطبقة السياسية العراقية وللشعب العراقي أيضا.
الطبقة السياسية ينبغي أن تفهم الدرس جيدا، لأن وحش الفساد الذي يفترس الشعب ولقمة عيشه وقوتهِ اليومي، سوف يفترس مجلس النواب نفسه ويطيح بالحكومة ومؤسسات الجولة والتجربة كلها اذا لم تسارع الطبقة السياسية الى تصحيح الأمور وإعادتها الى نصابها بأسرع ما يمكن.
أما درس الشعب، فهو ينحصر في أهمية أن يختار ممثليه من الذين يؤتمنوا حقا، وليس من ضعفاء النفوس، أولئك الذين يسيل لعابهم على أموال وحقوق غيرهم، وتدفعهم شراهتهم الى الاستحواذ على السلطة والنفوذ والاموال بأية طريقة كانت، بغض النظر عن السبيل الصحيح والمشروع الى ذلك، فالغاية لديهم تبرر الوسيلة، ومثل هؤلاء لا يستحقون أن يمثلوا أنفسهم، فكيف يُسمح لهم بتمثيل الشعب.
وهناك درس للقضاء والنزاهة والأسلوب الشفاف في معالجة هذه الاتهامات التي طالت النواب، اذ ينبغي أن يتم رصد طريقة تعامل النزاهة معهم والقضاء كذلك، حتى يكون العراقيون قادرون على معالجة مثل هذه الانكسارات الفادحة في مسيرة حياتهم، إننا يجب أن نتعلم الدروس التي تصل بنا الى مصاف الدول المتقدمة والمجتمعات الراقية المستقرة.
اضف تعليق