كنت في السابعة او الثامنة من عمري، عندما رافقتُ أحد أقاربي الى مركز المدينة، كان الوقت صيفا، وكانت رفقة الكبار تعني الفوز بجولة مغرية، ترى فيها أماكن جديدة، وقد تحصل على لُعبة أو دمية أو عصير مثلّج او وجبة طعام جيدة، وعلى العموم ترك أجواء البيت الرتيبة، والذهاب الى مركز المدينة تعني انك ستربح شيئا ما.
لم أكن اعرف ما هو الربا، ولكنني لاحظت أن الشخص القريب مني قد حصل على مبلغ من المال من صاحب المحل، من دون مقابل، لكنني عرفت من خلال الحديث المتبادل بينهما، قيمة المبلغ الذي استلمه قريبي، وقيمة المبلغ المضاف بعد إعادته شهريا للمرابي، وعرفت أن قريبي قد استلم مبلغا بطريقة الربا، ولاحظت الفرح والسرور قد طغى على وجهه، وفجأة صار كريما معي، فقال اطلب ما ترغب من الطعام والشراب، كنت أتناول الطعام الساخن الشهي وأنا أفكر بالمال الحرام الذي حصل عليه هذا الرجل بطريقة الربا.
بعد العودة من مركز المدينة أخبرت أبي بتفاصيل ما حدث بالقدر الذي فهمته، وبعد دقائق سمعت صراخا قويا يدور بين أبي والشخص الذي رافقته الى المدينة، ثم رأيت أبي وهو يجبر الرجل على الذهاب معه الى صاحب المحل في المدينة، وبالفعل ذهبا معا ووافق الشخص صاغرا لأن أبي كانت لديه سطوة على الجميع.
في صباح اليوم التالي التقيت مصادفة بالرجل قريبي الذي اصطحبني معه الى مركز المدينة وعاتبني، وكاد أن يضربني لأنني أخبرت ابي بما جرى، فهربت منه، مهددا إياه بأنني سأخبر أبي بكل ما يفعله من أخطاء مستقبلا.
حدث هذا المشهد أيام الفقر والقحط والضنك، قبل عشرات السنين، ولكن اليوم ألاحظ أن هذه الظاهرة (الربا) تعود الى الحضور بقوة بين الناس وبأشكال عديدة، وأتساءل عن ظاهرة بيع المواد المنزلية وما شابه بأقساط شهرية، يضيف عليها أصحاب المحال نسبة هو الوحيد الذي يتحكم بمقدارها، وأحيانا يقع فيها غبن كبير على المشتري، بسبب عدم وجود ضوابط محددة في هذه العملية اضافة الى غياب الطرف الثالث الضابط لاصول هذه العملية، والضعيف فيها هو الفقير صاحب الحاجة دائما.
ولعل أسوأ هذه التعاملات هو الحصول على مبلغ من المال يُضاف إليه نسبة في زمن معين متفق عليه، فتصبح هذه العملية (ربا) لا شك فيه، يشترك فيه طرفان، احدهما محتاج، والآخر مرابي، والنتائج هي الفتك بالمجتمع من خلال انتشار هذه الظاهرة بسبب الفقر، وضعف القوانين، وانتشار الاستغلال بين الناس بعضهم لبعض.
غياب الحلول الناجعة
وعندما تغيب الرؤية الواضحة لمعالجة أمر ما من أمور الحياة، لاسيما تلك التي تتعلق بالمجموع وليس الفرد، فإن الحلول الصحيحة تغدو بعيدة المنال، وهذا يعني أن المعالجات تحتاج الى رؤية سليمة في مجالات الحياة كافة، ومنها الاقتصاد بطبيعة الحال، والتعاملات التجارية والمالية والربحية وما شابه، كل هذه الامور لا شك أنها تنطوي على مشكلات وتعقيدات في المسار العملي.
لقد ارتبط النشاط الربوي في الغالب بالمؤسسات المالية، مثل المصارف وبيوتات المال واسواق البورصة وغيرها، وشهدت الفترة الحالية تطورا كبيرا في حجم ونشاط هذه المؤسسات، واصبحت أنشطتها متواجدة في جميع اقتصاديات المجتمعات المعاصرة، وتمثل حاليا جزء أساسيا من الانشطة الاقتصادية والمالية لديها، بحيث لا يمكن ان نتصور وجود كيان اقتصادي، دون ان تتواجد فيه هذه المؤسسات المالية.
ويكاد الاقتصاد العالمي أن يقف اليوم على مرتكز الفائدة، وان جميع التعاملات البنكية تضع الفائدة عنصرا أساسيا في تعاملاتها، كما يؤكد ذلك احد خبراء الاقتصاد، لذلك يرى بعض المعنيين في هذا المجال، أن المعاملات الربوية من اهم الموضوعات التي تثير جدلا واسعا، في أوساط الفقهاء والمفكرين الاقتصاديين، وتمثل إحدى المعوقات في سبيل انجاز المعاملات التجارية وفي تحقيق التنمية الاقتصادية في المجتمعات المتنامية.
طبعا هناك من يؤيد التعامل المصرفي بالفائدة، أي يؤيد تطبيق نظام الفائدة في التعاملات المالية المصرفية، حتى لو كانت هناك مشكلات يمكن أن تلحق بطبقات واسعة من المجتمع، ومنهم الفقراء بالدرجة الأولى، لان الأغنياء في منأى عن الأذى، بل هم الذين سوف يستفيدون من الفائدة المضافة على الأموال المودعة في البنوك كونها أموالهم.
وهنالك جانب آخر يتعلق بطبيعة التعاملات المالية في العصر الراهن، وحتمية فرض أسلوب الفائدة على الأموال المودعة في النظام المصرفي، لذلك تبدو عملية الاستغناء عن هذا الأسلوب، أي أسلوب منح الأموال المودة فائدة بنسبة معينة، غير ممكن في البنوك والمصارف.
وهكذا يحدث نوع من الازدواج في هذه القضية، وتغدو معالجتها في ظل النظام المالي المصرفي، أمرا صعبا، نظرا لعدم وجود التحفيز المالي للإيداع في حالة إلغاء الفائدة، التي يعدها المعنيون نوعا من الربا المحرّم.
أبعاد اقتصادية اجتماعية خطيرة
لذا فإننا نقف اليوم ازاء مشكلة كبيرة حقا، خاصة أن ظاهرة الربا تنتشر بصورة متصاعدة في التعاملات المالية في مجتمعاتنا، لاسيما أن القدرة الشرائية للناس في حالة تدني متواصل، وليست هناك حلول مطروحة في الأفق بسبب الأزمة المالية التي ضربت العديد من الدول بسبب هبوط اسعار النفط لاسيما في الدول المنتجة له، بل هناك اقبال حكومي متواصل على التقشف في الدول الريعية التي اعتمدت على النفط موردا وحيدا كالعراق مثلا!! وهو أمر يضعف القدرة الشرائية للطبقات الفقيرة وهذا يشجع على انتشار الربا أكثر فأكثر.
وقد لوحظ في بعض الدول استشراء هذه المشكلة على نحو كبير، حيث يتم ايداع اموال ضخمة في بنوكها ومؤسساتها المالية، وفقا لنظام الفائدة، بحجة انها تتماشى مع النظام العالمي المالي السائد حاليا، لكن تتناسى هذه الانظمة تلك المشكلات الكبيرة التي يلحقها نظام الفائدة الربوي بالاقتصاد، وكذلك ما ينعكس من هذا التعامل المصرفي المالي على الجماعات والافراد، لاسيما الفقراء منهم.
مع العلم ان جميع المؤشرات التي تتعلق بالتعاملات المالية في البنوك والمصارف على المستوى العالمي، تشير الى نجاح المصارف الاسلامية التي لا تتعامل بمبدأ الفائدة، وتسعى لتطوير وتمويل جماعات ودول وفق شروط الانتاج الجيد، بعيدا عن فرض الفوائد وما شابه، فأسهم ذلك بتطوير دول فقيرة، مع نجاح البنوك التي ترفض الفائدة في مهامها.
ومع ذلك هناك أنظمة لا تزال غير مهتمة بما يعانيه الاقتصاد والفقراء معا بسبب ظاهرة الربا، فالمهم لديهم كما يبدو من إصرارهم على اضافة نظام الفائدة على التعاملات المالية في المصارف، أن تتحقق الربحية الممكنة لهم، بغض النظر عن الأضرار التي تنعكس عن مثل هذا النظام المصرفي على المجتمع وعلى الاقتصاد بصورة عامة.
لذلك هناك امور وجوانب ذات أبعاد اقتصادية لم يتم التنبّه لها من معظم الأنظمة، يمكن ان تلحق بها خسائر اقتصادية فادحة نتيجة الإصرار على النظام الربوي المتفشي في مؤسساتها المالية، هذا في الاطار الرسمي للبنوك الرسمية، ولكن هناك نشاط اهلي واسع يتعامل بظاهرة الربا، وغالبا ما يؤدي الى إلحاق اضرار كبيرة بطبقة الفقراء.
فالاغنياء يعرفون كيف يحمون انفسهم واموالهم عبر توريط الفقراء وتكبيلهم بالكمبيالات والصكوك البنكية وما شابه من شروط ضامنة لاموالهم التي ستُعاد إليهم مضاعفة، اما الفقراء ليس امامهم سوى الدفع او التعرض للسجن والعقوبات الاخرى!، والنتيجة هي صنع مشكلات جديدة في المجتمع، قوامها الفقر والمشكلات الاجتماعية.
مكافحة هذه الظاهر تستدعي قيام الجهات الرسمية بمتابعة هذه الظاهرة، ووضع الحلول الصحيحة لها، ومنعها بشكل جذري، وفي الوقت نفسه فتح منافذ عبر المصارف الاسلامية لإقراض المحتاجين مبالغ بدون فوائد، على ان يتم التأكد من استخدام الاموال بطريقة صحيحة، وتشغيلها واستثمارها لغرض تكوين مورد لمن يحصل عليها، ولا تشكل عليه عبء مالي ثقيل كما هو الحال مع ظاهرة الربا.
اضف تعليق