فيما كنّا على متن حافلة سياحية تقلنا من كربلاء المقدسة الى العاصمة بغداد، لاحظت أننا نعبر نهراً واسعاً وجميلاً من على جسر المسيّب، دفعني الفضول لأن اسأل عن اسم هذا النهر الكبير، وقبل ان تجيب والدتي، بادرنا أحد الركاب، وكان أمامنا، بأن "كيف لا تعرف نهر الفرات الذي حُرم من شربه الامام الحسين...".
هالني الجواب ومضامينه العجيبة، كما لاحت منّي التفاتة الى الزي العسكري الذي يرتديه رفيق دربنا، وعلقت هذه الكلمات في ذهني منذ ذلك الحين حيث كان عمري يناهر الثانية عشر سنة، أي في نهاية السبعينات، ولم تغب صورة ذلك الرجل العسكري وملاحظته، حتى اندلعت الحرب العراقية – الايرانية، كنت حينها في ايران، وكنت ألاحظ تعرض الجنود العراقيين الى سهام التشكيك والتقريع، وأنهم يتحملون المسؤولية الاكبر في استمرار الحرب، وانهم عديمي الارادة والقيم والمبادئ وغيرها من الاتهامات القاسية، وطيلة تلك الفترة العصيبة، كنت على يقين بأن يأتي يوماً تتغير في هذه النظرة وتتحول الى نقيضها تماماً، فحصل ما حصل من تشكيل جيش خاص تمخض من معسكرات الأسر، أطلق عليهم "التوابون" لما للمصطلح من دلالات تاريخية وعقائدية، ثم تحول بندقيتهم من أداة طيعة بيد صدام، الى وسيلة للتغيير أولاً، ثم التحرك لضرب النظام البائد.
ومرة اخرى أخطأ العالم بحق العراقيين في حرب الكويت، فجاء الرد سريعاً في الانتفاضة الشعبانية، ليثبث العراقيون امتلاكهم الارادة على التغيير، ثم جاءت فترة العقوبات الاقتصادية الظالمة والقاسية على هذا الشعب المضطهد، من قبل المجتمع الدولي ومن قبل النظام البائد في وقت واحد، فجاء التصور هذه المرة؛ أن العراقيين لن يفكروا بشيء إلا بما يسد جوعهم ويلبي حاجاتهم، ثم يصرون على تصحيح الصورة المغلوطة في أول زيارة للإمام الحسين، عليه السلام، تتاح لهم بعد ايام من سقوط الطاغية، فيخلقون ذلك المشهد العظيم الذي أبهر العالم والشعوب الاسلامية، حيث ازدلف الملايين من داخل العراق فقط، نحو مرقد الامام الحسين في زيارته الاربعينية، فكان الرجل العجوز والمرأة الكبيرة الطفل الصغير وحتى الرجل المعوّق على كرسيه المتحرك، وفي آخر مطاف في العلاقة بين الشعبين الايراني والعراقي، والتي لوثها دخان ودماء حرب الثمان سنوات، فكان ايضاً عند مرقد الامام الحسين، وخلال الزيارة الاربعينية عندما تفاجأوا بالضيافة العراقية والتضامن والتسامح مع أعداد هائلة من الزائرين عُدت بالملايين، وعند هذه النقطة أقرّ الايرانيون بأنهم كانوا طيلة السنوات الماضية على خطأ في تصوراتهم إزاء الشعب العراقي، فقد عرفوا هذا الشعب على حقيقته.
فماذا يعني كل هذا؟
طيلة السنوات الماضية جلس مفكرون ومنظرون، واجتمع أكاديميون على أمل الخروج بصيغة تمكنهم من امتلاك قوة جديدة بديلة عن قوة السلاح المكلفة والسيئة للتأثير على العالم الخارجي، بينما نلاحظ الشعب العراقي، وبشكل عفوي، بعيداً عن التنظير وبذل الجهد الذهني، انفجر بقدرات ذاتية عظيمة من شأنها ان تكون اكبر قوة ناعمة في العالم، تفوق ما لدى الاميركيين من صور البطولة والتفوق والإثارة التي صدرتها هوليود و"سوبرمان" وغيرهما، وايضاً ما لدى الاوربيون من ثقافة وأدب وما لدى الهنود من مشاعر انسانية صدرتها السينما الهندية، وما لدى الصين من قوة تصنيع وايضاً "يوغا" وغيرها من الامثلة.
القوة الناعمة للتغيير الذاتي أولاً
صحيح إن العالم تعرف على القوة الناعمة، كمفهوم ونظرية متكاملة من خلال كتاب ألفه الادميرال في البحرية الاميركية جوزيف ناي، تحت عنوان "القوى الناعمة معالم النجاح في السياسة الدولية"، وقدمه كبرنامج عملي لحكومة كلينتون في تسعينات القرن الماضي لما فيه خدمة المصالح الاميركية في العالم، بيد أن حتى هذه النظرية المستندة الى حقائق انسانية وحققت بعض النجاحات في العالم، بحاجة لأن تتحول الى مصاديق عملية لدى اصحابها، فاذا كان الانسان الاميركي – مثلاً- قادراً على أن يهب السعادة للعالم، عليه أن يكون يجسد السعادة في حياته، لا أن تأتي ازمة اقتصادية او مالية فتعصف بحياته، فلا يفكر بالسعادة، وإنما ببيت يأويه، كما حصل في الازمة المالية عام 2008، وهكذا الامر في سائر التجارب في بلاد العالم، بمعنى أن هذه القوة التي يتحدثون عنها، ما هي إلا منتج مصنوع، كما هي القوة غير الناعمة، لا دخل لها بحياة الانسان وواقعه.
لذا نتفق مع ما ذهب اليه الناقد السينمائي والكاتب المصري سمير فريد في ندوة عن القوة الناعمة في مصر، من أن مصطلح القوة الناعمة، مغلوطة من الانجليزية، والتسمية الأصح؛ "القوة الثقافية"، وبما أن الثقافة تضم في منظومتها؛ اللغة والعادات والتقاليد والسلوك، فانها لن تأتي من عوامل خارجية، بقدر ما هي تمثل قابليات داخلية في كل شعب حسب خلفيته التاريخية تكوينه الاجتماعي.
وعندما تكون هذه القوة "الثقافية" متجسدة في حياة شعب ما، فانها تكون ذات تأثير اكبر على الشعوب الاخرى، بدليل المصداقية على ارض الواقع، فان يكون شعباً ما متسامحاً ومحباً للآخرين وتواقاً الى الحرية والكرامة، لابد ان يتجسد ذلك في حياته العملية ويثبت قدرته على الاستفادة من هذه المفاهيم والقيم في حل مشاكله هو، قبل ان يتطلع للتأثير على الآخرين.
وقد أثبت العراقيون على طول الخط امتلاكهم قوى جبارة من شأنها صناعة الحدث وتغيير الواقع، كما حصل في الاستجابة لفتوى الجهاد وتشكيل جيش جديد تحت عنوان "الحشد الشعبي" والذي استعرضوا فيه، ليس قوتهم العسكرية وحسب، وإنما القوة الاخرى الاكثر نفوذاً وتأثيراً على واقعه وعلى الاحداث.
وعندما ننجح في استعراض هذه القوة في ذروة الازمة السياسية والامنية، فان بالامكان استعراض القوة الثقافية في نشر النظام والالتزام بالقانون والمزيد من التكافل والتسامح بما يقدم صورة رائعة للعالم الخارجي يترك تأثيره الكبير على نمط التعامل والتعاطي على الاصعدة كافة، السياسية منها والاقتصادية.
ولكن؛ هل هذا بالامر الهيّن؟ وهل هذا من باب اطلاق الشعارات والآمال المجنحة؟، إن الامر بحاجة الى تعزيز للأسس الثقافية والجذور العقائدية وكل ما من شأنه ديمومة هذه القوة وإعطائها بعداً أوسع في الحياة، فاذا يبلور الآخرين نظرية القوة الثقافة (الناعمة) من خلال نظريات تنطلق من مصالح سياسية او اقتصادية، فان على النخبة المثقفة من علماء خطباء وكتاب وغيرهم، اتخاذ القرار التاريخي والشجاع بخوض التجربة وتكريس القيم الايجابية في النفوس، مثل الأمل والثقة بالنفس والمزيد من الاقتراب الى واقع الناس ليسهل عليهم التغلب على مشاكلهم وحلها بأفضل الطرق واقلها كلفة، وهنا نكون قد شكلنا الدورة المتكاملة للقوة الثقافية الجبارة؛ الجذور – النخبة المثقفة- الجماهير.
اضف تعليق