التظاهرات الاحتجاجية او المطلبية، والمبادرات الخيرية، وردود الأفعال على ظواهر اجتماعية وسلوكية معينة، ومجمل الحراك الاجتماعي الطامح نحو الإصلاح والتغيير او حتى لصدّ الموجات الثقافية والفكرية الغازية، وغيرها كثير من مظاهر الحيوية في المجتمع، كلها تؤشر الى تميّز وتفوق هذا المجتمع او تلك الأمة على غيرها، فبقدر ما تملك من رصيد الدوافع للحركة والحيوية، يزداد تألقها في مصاف الأمم المتقدمة.
وقد بحث علماء النفس منذ القرن الماضي عن كيفية ايجاد هذه الدوافع في النفس الانسانية، لانهم لاحظوا حالات عديدة كانت الحاجة شديدة للحركة والتصدّي، بيد أن ما حصل عكس ذلك؛ حيث الخنوع والاستكانة والقبول بالأمر الواقع، كالشعوب التي ارتضت الاحتلال العسكري او التبعية السياسية والاقتصادية، والسبب في ذلك هشاشة الدوافع واحياناً عدم وجودها، لاسيما وأن الانسان مخلوق على الفطرة السليمة والعقل المتكامل، فلا يتحرك نحو فراغ ولا يقبل بحياة العبث، إنما يبحث لنفسه دائماً، عن الدوافع، او ما يطلق عليه علماء الدين بـ "البواعث" ومن ثم الهدف والغاية القصوى التي من اجلها يتحرك ويعمل وينجز.
وفي محاولة منهم لإضاءة الطريق، قال مصطفى حجازي في "قراءات في علم النفس الايجابي" بوجود نظامين دافعين يتحكمان في حركة الانسان، ويتبادلان الظهور على صعيد الواقع حسب الظروف والمتغيرات؛ النظام الاول: النظام الحيوي العصبي الذي يقوم بمهمة الوقاية والحماية من الاخطار والصدّ والانحسار والانكفاء، وصولاً على الاستكانة"، وما يمكن وصفها بالحالة السلبية، بينما يشير الى النظام الآخر ذو الطابع الايجابي و "الحيوي العصبي الذي يقوم بمهمة الانفتاح والمواجهة والاقدام والسيطرة على الواقع وصناعة المكانة والمصير...". وهو النظام الذي يحمل اصحابه على طريق النمو والتطور في المجالات كافة.
صناعة الحوافز
ولكن يبقى السؤال عن كيفية تكوين هذا النظام الايجابي ومساعدة الفرد والمجتمع على التحرك وبعث الحيوية في القدرات الذهنية والعضلية نحو الاصلاح والتغيير؟، فما نلاحظه في واقع أحوال شعوبنا الغارقة في الازمات، أنها تعتمد على الإثارة الداخلية المحركة انطلاقاً من حاجة طبيعية مثل الحفاظ على الحياة من موت محقق او مخاطر الجوع او الاوبئة او الكوارث الطبيعية، الى جانب الحاجة النفسية التي تتوزع على نوازع وغرائز مختلفة تدفع صاحبها للتحرك، بسرعة فائقة تارةً، او بخطوات متأنية تارة أخرى، للوصول الى الجاه والمال او لاشباع الغريزة الجنسية، وهذا أمرٌ حَسنٌ ضمن المعايير والأطر الصحيحة المخصصة لها، ولكن؛ لايجب ان يكون كل شيء في حياة الانسان، لان الطموح والتطلع نحو المستقبل بغية تحقيق الافضل، بحاجة الى إثارة للدوافع من نوع آخر، ليست طبيعية وعفوية، إنما هي من قادمة من الخارج تساعد الانسان على إيجاد الصلة بين واقعه المادي الملموس وبين الآفاق البعيدة المتضمنة للنجاح، او في الجانب الآخر؛ حيث التحذير من العواقب الوخيمة.
أطلق علماء النفس على هذا النوع من إثارة الدوافع بـ "الحوافز" المحركة للسلوك الفردي والاجتماعي، وركزوا على الجانب المادي في حياة الانسان، لاسيما في محيط العمل والدراسة، حيث الحاجة شديدة الى هذا النوع من الدوافع، فالمصانع والشركات الانتاجية والتجارية الكبرى في العالم، إنما حققت النجاح والمكاسب بفضل اسلوب الحوافز الذي اتبعته مع العاملين لديها، فيكون الامر أشبه باتفاق غير مكتوب بين الطرفين لتحقيق الانتاج الافضل، كذلك الحال نلاحظه فيما يتعلق بالدراسة والتعليم حيث بعض حالات التحفيز – ونعني بعبارة البعض- لدى الآباء في البيوت والكادر التدريسي في المدارس، لمساعدة الطالب على مواصلة الدراسة بجدّية وكشف آفاق النجاح امامه، من خلال الدعم المادي والمعنوي.
وقد ركز علماء النفس جهدهم على هذه النقطة تحديداً ووصفوها بـ"المعززة للسلوك"، وذهبوا الى أن من شأنها ان تعدل السلوك تارةً، وتعزز الجوانب الايجابية فيه تارةً اخرى. ولعل من ابرز من برع في بحث هذه الطريقة تحديداً عالم النفس الاميركي بورهوس سنكر، الذي ذهب الى أن الحوافز من شأنها ضمان العواقب من خلال "حسن السلوك"، فالتحكم بالسلوك يأتي من خلال التحكم بالعواقب، وهذا ما قاله العالم الاميركي بأن "السلوك تحكمه عواقبه"، وقد تمت الاستفادة من هذه القاعدة العامة في مشاريع تربوية وتعليمية في اميركا وبلدان اخرى، وقد وصفت على أنها نوع من "تقنية تعديل السلوك من خلال تعزيز السلوكيات المرغوبة ونبذ السلوكيات غير المرغوبة".
الثواب "القرآني" الحافز الأكبر
اذا طالعنا آيات من الذكر الحكيم – لاسيما في هذه الايام المباركة- نلاحظ هنالك إشارات عدّة الى الحوافز نحو العمل الصالح الذي يفيد الانسان في حياته الدنيا وفي حياته الاخرى الأبدية في الوقت نفسه، واذا كنا نتحدث عن العواقب المحددة للسلوك وكيفية التحكم بها وتوجيهها نحو الفضيلة والصلاح، وذلك من خلال جملة من الحوافز ذات الطابع المادي مثل الهدايا والامتيازات وغيرها، فان الحوافز المعنوية في القرآن الكريم، تدلنا ليس فقط الى الثواب الأخروي، وإنما الى آثار دنيوية في حياة الانسان.
ولعل الآيتان الكريمتان في سورة المائدة، تعطينا مثالاً رائعاً وهي تخاطب أهل الكتاب بأن {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}.
فاضافة الى قدرة هذه الحوافز المحكمة للسلوك على صناعة واقع من شأنه ان يغير مصير شعوب وأمم ويكتب تاريخا جديداً عندما يندفع الانسان نحو التضحية بماله ونفسه في سبيل قيم عليا وأهداف عظمى، لذا نقرأ في الكتاب المجيد حوافز عظيمة مقابل الصبر والشكر والتضحية في سبيل الله، وهو سبيل الحق والكرامة الانسانية، وفي الآية الكريمة من سورة آل عمران، نقرأ تساؤلاً جميلاً: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.
وبالمحصلة؛ نجد انفسنا أمام رصيد ضخم من الدوافع المعنوية الجبارة تعضدها حوافز من نوع خاص لا تُحد، ولنا في المعاصرين لفجر الحضارة الاسلامية، خير عبرة وقدوة، وكيف انتشروا في الآفاق ونشروا كلمة الحق، وأضاؤوا للعالم كل سبل التقدم والتطور في الحياة، فالحوافز امامهم لم تكن المال والبيوت الفارهة والامتيازات والمناصب وغيرها، إنما كانت ما هو أسمى واكبر من كل ذلك، وهو المضي على سنن الله في الحياة والكون وعدم الانحراف عن الطريق القويم الذي رسمه للانسان في الحياة.
اضف تعليق