عند الحديث عن اقليم الجنوب المفترض اقامته في العراق، يتبادر الى الذهن سؤال قد يثير الغرابة والتعجب، اذ ان الدعوة الى اقليم البصرة رافقتها الكثير من الخلافات والتردد، من داخل البيت الشيعي (باعتبار ان اقليم البصرة وما حولها من المحافظات تضم الاغلبية السكانية لشيعة العراق جنوبا)، والحال يفرض ان الرابح الاكبر من هذا المشروع هم الشيعة انفسهم، فلماذا اختلفوا حول قرار قد يصب في مصالحهم العليا؟
قبل ان نتعرف على اجابة هذا السؤال، ينبغي ان نحدد امرين مهمين:
1. ان من يحسم امر اقليم الجنوب او اي اقليم اخر للشيعة في العراق، هم الشيعة بأنفسهم، باعتبارهم الاغلبية السكانية في العراق.
2. ان جميع امكانات تشكيل الاقاليم الشيعية متاحة، فالجنوب والوسط من اغنى مناطق العراق، سكانيا واقتصاديا، كما ان الوضع الجغرافي (منافذ بحرية وبرية، حدود، تركيبة سكانية، زراعة...الخ) يساعد على ذلك ايضا.
يرى الكثير من الباحثين ان اثارة هذا الامر بهذه الوتيرة المتسارعة متعلق "بالهوية الوطنية العراقية" التي عانت ما عانت من الازمات والصراعات الطائفية والمذهبية التي مر بها البلد بعد عام 2003، ومنهم فيبي مار، وهو باحث ومؤرخ ومختص في التأريخ العراقي الحديث الذي اشار بالقول "ان مسألة الهوية العراقية تكاد تفقد وجودها بالبلد مستقبلاً، لانعزال الطوائف عن بعضها البعض فتجد القوميات والطوائف التي يمتاز بها العراق منعزلة حتى في الجانب الاجتماعي وهذا سيشكل مستقبلاً أمراً خطراً باعتقادي"، لكن هذا التشظي المذهبي والعقائدي لم يمنع الشيعة من التردد الذي يقترب من الرفض لمشروع الاقليم، بل وان البعض شبهه بمحاولة "لتقسيم العراق".
ان الاجابة على هذا السؤال يمكن الاشارة اليها من (3) وجوه:
1. الهوية الوطنية والهوية الشيعية: لا يكاد يميز شيعة العراق بين الهويتين، فهما بالنسبة له امر واحد، الولاء للوطن يعني الولاء للمذهب، والعكس صحيح، وربما يكون هذا الامر، المانع الحقيقي لجميع المشاريع التي تثار حاليا، والتي قد تثار في المستقبل للقبول بإقليم خاص للمواطنين الشيعة في العراق، مع معرفة ان هذه المسالة ليست حكرا على شيعة العراق، وانما امر يمتاز به جميع الشيعة في العالم، فمع جميع الضغوط التي تعرض لها الشيعة في اغلب دول العالم، لم نسمع ان هناك من يرغب بالانفصال او الاقليم، والامثلة على ذلك اكثر من ان تحصى، كما ان حرصهم الشيعة في العراق على "البلد الواحد" خالف الكثير من التوقعات التي اثيرت بعد عام 2003 وتحررهم من نظام صدام، اضافة الى تمتعهم بالثقل الاكبر في جميع الحكومات التي تلت هذه المرحلة بحكم الاغلبية، وعزز المواطنون الشيعة من هويتهم الوطنية بالتصدي لهجمات تنظيم (الدولة الاسلامية/ داعش)، والتي كانت تتركز في شمال وغرب العراق، وهو امر (بحسب النظرة الطائفية او المذهبية) لا يعنيهم او لا يشكل خطرا حقيقيا على مستقبل الشيعة.
2. ان طريقة طرح المشروع والوقت الذي اثيرت فيه مسالة الاقاليم، اضافة الى الهوة الكبيرة بين الجمهور ومن يتبنى هذا المشروع (السياسيين)، كلها عوامل ساعدت للدفع باتجاه التردد وانعدام الثقة والحماسة، سيما وان التجارب المريرة لمجالس المحافظات والحكومات المحلية (باستثناء بعض التجارب الناجحة) التي تولت ادارة المحافظات الجنوبية خلال فترة تجاوزت العقد من الزمن، والتي فاقمت من معاناة سكان الوسط والجنوب من الشيعة، قد اعطت انطباعا لدى الغالبية بان الاقليم سيكون وبالاً عليهم، وربما سيكون سببا اخر في زيادة مشاكلهم الخدمية والاقتصادية وحتى السياسية مع دول الجوار، ناهيك عن مستوى الفساد الكبير المستشري بين المتصدين للخدمة العامة من سياسيين وغيرهم، وقد اثارت هذه المخاوف (والحال هكذا) الكثير من الاسئلة حول الفائدة التي سيجنيها الشيعة من الاقليم؟
3. لقد عبر الكثيرون عن قلقهم من فكرة الاقليم بالقول "ماذا بعد الاقليم؟"، فالشمال تحت ادارة الاكراد ولهم "اقليم كردستان"، وهم ماضون بمشروع الانفصال عن العراق، بعد اكمال نواقصهم الاقتصادية والمكانية، وانتظار الوقت المناسب، وهم (الاكراد) لا يخشون من قول هذا الامر بصورة علانية، ولم يخفوا هذا التوجه ايضا، اما المناطق التي يشكل السنة الاغلبية فيها، فبالتأكيد ستلجأ نحو الاقليم (اسوة بالشيعة والسنة)، وفي حال تم هذا الامر بصورته القانونية، يتخوف الشيعة من تحول العراق الى بلد "الولايات الثلاث" او "الدول الثلاث"، وبالتالي قد يقفد العراق هويته الحقيقية، وقد تكون مقدمة لصراع دموي (ببعد طائفي وقومي) حول ترسيم الحدد والمناطق المتنازع عليها وتقسيم العوائد وغيرها العشرات من القضايا الخلافية.
بالمقابل فان مشروع الاقاليم لا يعني بالضرورة تقسيم العراق، كما لا يمكن المغالاة في طرح توقعات تشاؤمية قد تقترب من نظريات المؤامرة سواء اكانت من الداخل او الخارج، في حال أحسن اصحاب القرار والراغبين بالذهاب وراء اقلمة المحافظات العراقية ادارة الامور والتصرف بعقلنة بعيدا عن اللجوء الى استخدام العواطف او التضخيم، والتدرج في تطبيق هذا المشروع لمعرفة مدى نجاحه من عدمه، وربما يتم ذلك من خلال:
1. اقامة تجمع او "برلمان مصغر" يضم مجالس المحافظات والحكومات المحلية والمجالس البلدية في المحافظات التي ترغب في التوحد تحت اقليم واحد، لطرح التوافقات والخلافات التي قد تعيق مشروع الاقليم المفترض، ومحاولة تقوية التنسيق الاداري والمالي والخدمي فيما بينها لمعرفة مدى الانسجام الحاصل بين هذه الادارات المحلية، على ان يتم الامر وفق مراحل زمنية مدروسة، وصولا الى الانسجام العالي في الاداء والقرار، والذي سيمهد الى ارتفاع مستوى القناعة بالذهاب نحو الاقليم بصورة واقعية.
2. الاستعانة بالمراكز البحثية المتخصصة، لتقديم دراسات واقعية، تمتاز بالحيادية والموضوعية، خصوصا فيما يتعلق بالنواحي الايجابية والسلبية، وهو امر كفيل بمعرفة تفاصيل هذا الامر من مختلف الزوايا، ومدى تأثيراته المستقبلية على المستوى الداخلي والخارجي.
اضف تعليق