تم وضع التطرف كمفهوم مؤثر وفاعل في المشهد العالمي الراهن، تحت مجهر البحث والتمحيص، في محاولات رصين، لوضع حد لتأثيره الكبير في الحياة السياسية والاجتماعية على مستوى مزدوج، محلي وعالمي، وقد أشبع المفكرون موضوعة التطرف بحثا، وخيرا فعلوا لأننا نحتاج الى الكثير من الافكار واكثر من المجلدات التي تساعد الانسان على الحد من التطرف، فمن الممكن أن يحتفظ كل انسان بما يؤمن من عقائد وآراء وأفكار، حتى لو اختلفت مع الآخرين، فالمهم في هذا الامر عدم استخدام العنف وبذلك يمكن إطفاء نار التطرف، هناك خطان متجاوران يحكمان حياة الانسان والبشرية كلها منذ نشوئها، هذان الخطان هما العنف ونقيضه، أي السلم وكل ما ينتظم تحت هذه المفردة من عناوين وتسميات فرعية اخرى، فقد جُبِلَ الانسان على حالة غريزية من العنف، وسمتْ تركيبته النفسية، حيث أخذ يندفع - بقصد حماية نفسه- في بواكير وجوده الى استخدام وسائل العنف، وكان لابد من العنف لتحصيل الغذاء، فعاش الانسان مطارَدا و مطارِدا في وقت واحد!!، ومع مرور الزمن تضخَّمت حالات العنف، لتكون حياة الانسان في مبتدأ النشأة البشرية، مثالا للحيوانية الغريزية البحتة.
لم يتوقف الانسان عند هذا الحد، بل سعى كي يقلل من التعصب، ويذيب العقبات التي تنتج عن التطرف في الفكر وسواه، ومع الرحلة الشاقة التي بدأتها البشرية عبر آلاف السنين، بذل الفلاسفة والمصلحون والمفكرون جهودا فكرية إصلاحية مضنية، إلا أننا لاحظنا بما لا يقبل الشك، وجود العنف كخيار استخدمه الانسان منذ زمن بعيد وحتى الآن لتحقيق أهدافه ومآربه، لاسيما المادية منها، عوضا عن اللجوء الى مسار السلم، على الرغم من كونه أكثر تقاربا مع سجية الانسان التي زرعتها الفطرة في أعماقه، والسبب يعود الى أن التطرف والعنف يولدان من بؤرة واحدة ويعيشان في حاضنة واحدة تشجع على التطرف ومن ثم استخدام العنف لفرض الرأي والفكر والعقيدة على الآخر بالقوة.
وبقي العالم أجمع يعاني من التطرف، واستفحلت موجات العنف وضربت أماكن كانت تظن أنها في مأمن كباريس وبروكسل واوربا وأمريكا ايضا، ولذلك فإن الإنسانية في تطورها تقف اليوم على مفترق طرق في تكوينها الحضاري رغم التطورات والإبداعات الإنسانية المتعددة في كل المجالات، وهي في الحقيقة أزمة تقييم، وإعادة صياغة للرؤية الإنسانية إزاء أعمال العنف المصاحبة لهذا النمو المطّرد في البناء والتواصل الإنساني، لذا فإن ثمة أزمة عالمية تتمحور في أخطر مفاصل الإنسانية واستمرارها، في سيادة سلوك العنف والقسوة، وما يسمى اليوم بمصطلح الإرهاب، الذي حولت دفعاته الغريزية الفردية، إلى التجمعات الإنسانية عبر سياقها الاجتماعي، فكانت أزمة الحضارة المعاصرة في سلوك القسوة بكل أشكالها، كما يشير احد الكتاب، وهكذا وجد الإنسان نفسه وجها لوجه، أمام خيار العنف، وعليه التعامل معه بحيطة وحذر، خاصة أن هناك من يتخذ من العنف مسارا لحياته وتحقيق ما يربو إليه، متنكرا لإنسانيته أولا، ومتنصلا عن مبادئ السلم، وضاربا كل الأخلاقيات والتعاليم السماوية والأرضية عرض الحائط، وبهذا أصبح لزاما على المفكرين والمصلحين أن يصطفوا الى جانب بعضهم، من اجل تعضيد السلام ومساندة روح السلم، ومحاربة التطرف بكل الوسائل والسبل المتاحة، وقد ينجح الإنسان في مسعاه اذا اعتاد عدم اللجوء الى العنف وترك الآخر كما هو بعيدا عن فرض الرأي والدين والعقيدة بالقوة، فلا إكراه في الدين، تبقى القاعدة الأكثر نجاحا في وأد التطرف وهو في لا يزال في مهده وبداياته.
البحث عن النظام السياسي الأفضل
لا يمكن أن تسير الحياة كما هو مخطط لها ما لم يكن هناك مؤسسات تتبنى العمل لحفظ النظام الحياتي الشامل للجماعة، الأمة أو الشعب، ضمن اطار الدولة، وبعد التدرج المتواصل في النظام الجمعي المجتمعي الذي انتهجه الانسان تباعا، وبعد ان ظهرت الحاجة لتأسيس وبناء الدول والحكومات والانظمة السياسية، نظرا للزيادة المتتابعة في النمو السكاني، صار لزاما على المجتمع أن يبحث عن النظام السياسي الاكثر فائدة وحكمة، وذلك من خلال النظام الديمقراطي، والسبب في السعي لتأسيس وتطوير هذا النوع من الأنظمة، ان هناك عملية تبادلية بين السلم والنظام الاستشاري، حيث يدعم احدهما الآخر، فأجواء السلم والتعايش تساعد على بناء الدولة والنظام المستقر، والأخير بدوره سيكون قادرا على وأد العنف الداخلي والخارجي على حد سواء، ولكن يجب ان تكون هناك مبادرات وتخطيط وتنظيم وفعاليات جماعية، تعادل جهد دولة ومؤسسات وليست جهود فردية قد تتعثر وتفشل في تحقيق أهدافها، فوأد العنف يحتاج الى خطط دقيقة وكبيرة ومتواصلة..
لا شك أن التعايش هو الطريق الأقصر والأنسب للفضاء على التطرف والعنف، اذ لابد أن تكون هناك أرضية مناسبة لدرء تلك مخاطر، وبث حالة التعايش وحل النزاعات بالسبل السلمية المتاحة، ومن اهم الخطوات التي تدفع الأمور في هذا الاتجاه المسالم، مقارعة الروح القبلية والتطرف، وعزل الآخر باعتباره عدوا لا مناص من الاحتراب معه، بل دائما هناك فرصة متاحة لتوحيد الصفوف والكلمة، وحتى الرؤية الى معالجة الأمور كافة، وهنا تظهر بقوة قيمة الحوار، وصياغة المفردات الأقل حدة، فكل هذه الأساليب تسهم بطريقة أو أخرى في إطفاء بؤر التطرف.
هل أدرك الإنسان نتائج التطرف؟
من الأفضل أن تكون هناك عملية تنسيق لوأد العنف، عبر أسلوب الاحتواء والتحاور والابتعاد عن الصدام المباشر مهما كانت الأسباب، أما الجانب الذي ينبغي عزله، فهو الرؤى الشاذة الغريبة التي تحاول أن تخلط الأوراق، وتبث الضبابية في الأجواء العامة، حتى تلتبس الأمور على الجميع، وهكذا فإن التعايش هو السبيل الأسلم للجميع، لأن العنف خطر داهم يقود الى عنف آخر، في سلسلة متصاعدة يتوالد عنها عنف مستمر، يحطم البناء المجتمعي، ويعيق بقوة بناء النظام الاستشاري المعافى، ويقضى على فرض تأسيس وتطوير أسس وركائز الدولة المستقرة، لذا ينبغي التنبّه الى هذه الجوانب بقوة ودقة حتى تبقى الفرصة قائمة لوأد حواضن التطرف وبؤر العنف على نحو مستمر.
وعبر الرحلة الطويلة للبشرية، تعلم الانسان أن يتحاشى بعض المشكلات التي تلحق به الضرر، ومن الواضح أن الانسان أدرك ما يعترض حياته من مخاطر تنتجها ماكنة العنف والتطرف، لذلك وضع نظاماً وقائياً يحمي نفسه من أخطار الآخرين، وكان ما يهدد وجوده المادي منذ القدم، الافتراس أو الموت المفاجئ بشتى أنواعه، كالقتل أو الموت، فكان محور تقليده هو الحفاظ على ذاته، وعدت مشكلة بقائه حياً إزاء مخاطر الطبيعة والكائنات الحية الأخرى وإزاء أخيه الإنسان، محل صراع غير منتهٍ حتى مع تطور الحضارة واتساع الطموحات الشخصية، بل على العكس زادت هواجس الحفاظ على الحياة وتضاعفت سبل ووسائل البحث عن إيقاف التطرف ووضع حد له ومحاولة وأده وهو في بداياته.
وهكذا بات العالم يتساءل هل يمكن بناء قواعد مشتركة لوأد التطرف وأسبابه؟، وراح يسعى ويتعاون في هذا الاتجاه عبر المؤسسات والمنظمات المعنية فضلا عن الحكومات والنشاط الدبلوماسي ايضا، فالتطرف بالنتيجة لا يمكن أن يحقق أهدافا ذات فائدة حتى لمن يظن أنه قاب قوسين او أدنى من تحقيق مآربه، لاسيما الباحثون عن السلطة والمال والجاه، ففي ظل الوقائع المستجدة في العالم ينبغي أن تتضافر الجهود للقضاء على هذا الداء الخطير، ونعني به داء التطرف، لأنه بالنتيجة يصيب حتى الصانعين له بأضراره الفادحة، أي لا أحد يسلم من مخاطر التطرف، ولدينا تجربة الإرهاب الجديد الذي بات يكتسح العالم حتى الجزء المحصّن منه.
اضف تعليق