من المتوقع أن شريحة الشباب في العراق هم الأكثر تذمرا من بين الشرائح الاخرى، بسبب الأوضاع الحساسة التي تمر بها البلاد، ومع أننا نلاحظ أن هذه الشريحة من الشباب، هي الأكثر تضررا مما حدث في السياسة والاقتصاد والتعليم، وخاصة في مجال الوظائف والمعاناة من البطالة، لكن كل هذه الأسباب لم تتسبب بانطواء الشباب العراقي او انكساره لا سمح الله، فمنهم من ذهب الى جبهات القتال ضد داعش، ومنهم من انخرط في أعمال حرة متنوعة، ومنهم من حاول العمل في مهن لا تتناسب مع قدراته ومؤهلاته، ولكن بقي الشباب المثقف يمتلك القدرة على مواصلة الحياة وترميمها.
ولكن في جميع الاحوال لم ينهزم الشباب العراقي، ونرى ان هناك دور مهم للثقافة في التوصل الى مثل هذه النتائج الطيبة التي أفصح عنها الواقع هنا وهناك، إن الثقافة كما هو معروف تنطوي على مضامين تدعم القيم الانسانية، وتساعد على نشرها وترسيخها، هذا هدف أساسي من اهداف الثقافة، يجري وفق طرائق وأساليب ثقافية متعددة، قد تختلف في المسارات والاجراءات، لكنها تلتقي بالنتيجة، في دعمها للقيم التي تقلل من العادات والتقاليد والقيم غير الجيدة في المجتمع، ومن المعروف أن المثقف أداة الثقافة، من خلال فكره وابداعه ونشاطه في ميادين متعددة ايضا، إذ لابد من دحض الفكرة التي تقول أو تؤكد على ان المثقف انسان يختلف عن الاخرين، ويعلو بمستواه عليهم، لذلك عليه ان ينعزل في برج عال!! هذه النظرة خاطئة بطبيعة الحال، المثقف الجيد، هو انسان يتميز بقدرته على التأثير بالاخرين، وهذه السمة او الميزة، تتطلب أن يكون المثقف مثل غيره، من حيث الانسجام والتناغم واقامة العلاقات الاجتماعية الناجحة، حتى يكون مؤثرا بفكره على الجميع، ليس هذا فحسب فقد لاحظنا مبادرات راقية جدا بادر بها مجاميع من الشباب تقوم على بث الحياة في المدن والشوارع والساحات العامة من خلال تجميلها بأعمال ابداعية، وكل هذا تم بلا مقابل مادي، ومن دون تمويل من جهة رسمية أو منظمة أهلية أو من أثرياء البلد..
مبادرات بأقل الخسائر
إن مثل هذه المبادرات الشبابية الراقية فعلا تسهم في ادامة الحياة وتجديدها، وهي اشارة واضحة الى أن الأمل لا يزال حاضرا في نفوس هؤلاء الشباب العراقيين، وهم على استعداد لتعضيد العادات والاخلاقيات الحميدة في اوساط المجتمع العراقي كافة، خاصة أننا في هذه المرحلة الصعبة التي يحاول ان يتخطاها العراقيون والدولة العراقية بأقل الخسائر، ولكن علينا أن نعترف ونؤشر بوضوح أن هناك مخاطر واضحة تتعرض لها حياة العراقيين برمتها، إذ نلاحظ وفود وظهور عادات واخلاقيات خطيرة تحاول ان تزرع نفسها بين اوساط المجتمع العراقي، وقد اشرنا لهذا الامر في مقالات سابقة، من هذه العادات ما يشكل خطرا جديا على المنظومة الاخلاقية والعرفية التي يؤمن بها المجتمع العراقي، كون معظمها يتجذّر منذ مئات السنين في المجتمع، حيث تنتقل هذه المنظومة من جيل الى جيل، مع الحفاظ عليها واضافة ما يدعمها، ولكن ظهرت مجموعة من القيم تحاول ان تزعزع البناء القيمي للمجتمع، منها على سبيل المثال قبول الخطأ على انه حالة طبيعية، مثل الاختلاس والتجاوز على المال العام، بأنه نوع من الذكاء الذي يتحلى به موظف الدولة لبناء وتكوين الحاضر والمستقبل له ولذويه، مثل هذه الظواهر الفاشلة والدخيلة على مجتمعنا لم تكن موجودة في السابق، ومع ذلك نحن نلاحظ أن مجاميع من الشباب يحاولون أن يمنحون الحياة لونا آخر، كما لاحظنا ذلك في السماوة، حيث بادر مجموعة من الشباب الى تنظيف مكان التفجيرات ورسموا على جدران المدينة الوانا ومنظار واشكالا تنتمي للحياة ضد الموت الذي يحاول اعداء العراق نشره في كل مكان.
ان الثقافة الجديدة التي يطمح لها الشباب العراقيون، هي التي تبث الحياة بين أمواج الموت التي تجتاح البلد، فهناك هجمات شرسة ومعروفة، يشنها جهات ودول اقليمية وسواها فضلا عن اذرع داخلية، لها اهداف معروفة تحاول وتسعى بكل ما تتمكن من اضعاف العراق، واشغال شبابه بالبطالة مع تدمير الاقتصاد واضعاف الحكومة، لكن الشباب يمتلكون رؤية اخرى، ولديهم طاقات كامنة بادروا في توظيفها لصالح المجتمع، وهو ما نراه ونلاحظه في الشارع العراقي، وفي الاندفاع الذي يتحلى به الشباب
رسالة الشباب المثقف
ومن الواضح أن الثقافة لها دورها في دفع الشباب في هذا الاتجاه، فالشاب المثقف هنا يتحمل جانبا من المسؤولية في هذا المجال، لذا هناك عجز في الثقافة والمثقفين للقيام بدورهم في تعزيز القيم الأصيلة ونشرها وتجديدها اكثر فأكثر في الاوساط الاجتماعية المختلفة، التي تنعكس على الاوساط السياسية وغيرها، فعندما يظهر سياسيون فاشلون أنانيون، هذا دليل على ان الحاضنة الاجتماعية فاشلة، وفشل هذه الحاضنة يعود الى فشل الأصالة، وهذا يعود الى فشل الثقافة والمثقفين في القيام بدورهم كما يجب، وهو امر لا يمكن نفيه أو إنكاره، اذا توخينا الدقة وقررنا وضع النقاط على الحروف.
من هنا لابد من بوادر تعزز السلوك الجيد، وتتبناه الثقافة، ويخطط له المثقفون لاسيما من الشباب كونهم في مقتبل العمر ويمتلكون مهارات فكرية عملية، يمكن أن تحتضنها وتنفذها المؤسسات والمنظمات المعنية، وفق خطط دقيقة، من حيث الأفكار والاجراءات، فقضية تعزيز القيم لا يمكن ان تكون في الهامش، ولا يصح الانشغال بالشكليات وترك الاهم مما يحتاجه المجتمع، كي يحافظ على نسيجه ومزاياه، لذا ليس امام المثقفين سوى التصدي الفاعل لهذه القضية، ليشترك الجميع في وضع السبل والآليات التي تسهم في الوصول الى هذا الهدف.
ربما يتحجج بعضهم، أن الثقافة غير معنية بمثل هذه الامور الحياتية التي ينبغي أن تتصدى لها جهات حكومية معنية بها!، وقد يذهب بعضهم الى نبذ القضية الرسالية للمثقف والثقافة، فهناك من أعلن انه غير معني بالاخلاق، مدعيا أن مهمته ابداعية بحتة، لكننا نظن غير ذلك، وندعو ان تتصدى الثقافة لكل العادات الدخيلة التي تحاول خلخلة البناء المجتمعي، وتسعى لبث سموم خبيثة على شكل قيم وافدة لا تتسق مع التكوين الاخلاقي الديني العرفي، لمجتمعنا، لذا يستوجب الامر تنبّها وتنبيها على هذا الامر، والشروع الثقافي ثقافة ومثقفين شباب ومخضرمين، لتعزيز واطلاق المبادرات الهادفة الى حفظ الأخلاق المجتمعية الأصيلة وحمايتها، ونشرها بالوسائل المتاحة، ودرء خطر الثقافات الوافدة التي تبتغي زرع العادات السلبية في النسيج المجتمعي.
حياتنا بحاجة الى الترميم، لأسباب يعرفها الجميع، وهذه في الحقيقة مهمة صعبة، يمكن أن يتصدى لها الشباب وذوي الخبرات من الكبار، فالكبير يخطط والشاب المثقف يسعى للتنفيذ الدقيق، وفي جميع الاحوال تبقى الثقافة مسؤولة عن تطوير المجتمع، ويبقى الشباب في الصدارة للقيام بتطوير المجتمع عمليا وفكريا، وهي مهمة ثقافية شبابية سوف يتمكن العراقيون من التصدي لها وبناء دولتهم القوية المزدهرة رغم العقبات الكبيرة التي تواجههم في الظرف الراهن.
اضف تعليق