q

نقل لنا الموروث الشعبي هذه الحكاية، هناك رجل فلاح يمتلك أرضا واسعة متخمة بالحبوب والبيادر، وبساتين مثقلة بالتمور والغلال، وبهائم من كل الأصناف، كبيرة وصغيرة، ثمينة ورخيصة، أغنام وأبقار وابل وخيول وحمير وكلاب وسواها، وكان له (جيش) من الأولاد والبنات، يحرثون بأنفسهم ويزرعون ويسقون ويحصدون وينتجون في أوقات السلم، ويصدون الأعداء اذا تطلّب الأمر ذلك.

كبر الأب في السن وأصابه الوهن، فانتقل هذا الوهن لأولاده وكأنه كان عمود البيت، فلم يعد قادرا على مسك زمام الأمور، بعد أن اصابه مرض خبيث، في صباح احد الأيام وجد أحد الأبناء كلبا مقتولا لهم عند عتبة باب بيتهم الكبير، فسارع الأبناء لأبيهم الممدد على فراش البَيْن، وأخبروه أن أحدهم قتل كلبهم، فطالبهم الأب فورا بالبحث عن قاتل الكلب، وقال لهم بالحرف الواحد (إقتلوا قتّال الكلب)، لكنهم تعاملو بلا مبالاة مع الأمر، وكسلوا وتقاعسوا ولم يفعلوا، في اليوم التالي وجدوا شاة مقتولة قرب البيت، فأخبروا الأب بذلك وطلب منهم أن (يقتلوا قتال الكلب) أيضا، وفي اليوم الذي تلاه قتلوا لهم حصانا من النوع النفيس، واستمر مسلسل القتل اليومي، وفي كل مرة كان الأبناء يخبرون الأب، كان يطلب منهم أن (يقتلوا قتال الكلب)، ثم بدأ القتل يطول الأبناء أنفسهم، ففي صباح أحد الأيام قُتل أحد الأبناء وسارع الآخرون الى أبيهم وأخبروه بمقتل أخيهم، وأجابهم بالجواب نفسه (اقتلوا قتال الكلب)، وبدأ الموت يطولهم واحدا تلو الآخر، فبقي ولد واحد وأخير من بين تلك المجموعة من الرجال التي كانت تشرح القلب، جاء لأبيه وسأله قائلا، لقد ضاع منا كل شيء يا أبي، فقال الأب، لو أنكم (قتلتم قتّال الكلب) لما حدث هذا كله!، ثم انطفأت العائلة بأكملها.

في هذه الحكاية هناك إصرار على إهمال النصائح التي تستند الى حقائق دامغة وتذهب الى إطفاء النار في بداية اشتعالها، ومعالجة الخطأ في بدايته لأنه لا يزال بسيطا وواضحا وسهل المعالجة، لكن نتيجة لهذا الاصرار على الاهمال واعتماد منهج اللامبالاة والانشغال بالمصالح الفردية، خسر الرجال (الأبناء) كل شيء (أملاكهم، وأموالهم، وثروتهم الزراعية والحيوانية، وأخيرا خسروا حتى أنفسهم)، ولو أنهم استمعوا للنصيحة الأولى لأبيهم لما حدث هذا كله!!.

أنظمة القمع والكبت والدمار

هل تنطبق هذه الحكاية على الطبقة السياسية التي قادت العراق بعد نيسان 2003؟؟، الجواب، نعم يوجد شبه كبير بين الحكايتين، فمنذ أول الدخول في مرحلة (الديمقراطية العراقية الجديدة)، بدأت بوادر الانشغال بالسلطة والمال واضحة لمن تصدى لاستلام السلطة، وتم تأسيس نظام المحاصصة عبر (مجلس الحكم سيّئ الصيت)، ثم تشكلت الكتل، وبدأت الرؤوس التي تقودها بالظهور والنمو (الاخطبوطي)، وبدأ النهب المنظم لثروات العراقيين، ومنذ الشهور الأوائل، كانت هناك نصائح تصدر من بعض المصلحين والحكماء العراقيين، موجّهة الى الطبقة السياسية، طالبتهم بعدم السير في طريق الفساد، والتنبّه الى الشعب العراقي الذي عانى الأمرين، بسبب أنظمة القمع والكبت والدمار من جميع الانظمة التي تعاقبت على حكمه، في المرحلة الملكية وفي مرحلة الانقلابات العسكرية التي تلتها، وآخرها النظام السابق الذي سام العراقيين مر العذاب، وأذاقهم الذل والهوان وألوان العذاب والجوع والتعذيب والقتل، فكان هذا الشعب ينظر الى قادة المرحلة الجديدة بعد 2003 كمنقذين له، وتأملوا منهم التعويض عن الحرمان بأسرع وقت ممكن، فماذا حدث؟؟.

الذي حدث كان غير ذلك تماما، لكن المصلحين والحكماء واصلوا - على مدار الساعة- تقديم النصح لقادة الكتل والاحزاب وجميع الشخصيات العاملة في الساحة السياسية، ولطالما نبّهت المرجعيات حتى بّحّ صوتها، على أهمية تصحيح مسارات العملية السياسية ونبذ الفساد واصلاح دوائر ومؤسسات الدولة والحكومة، ومع كل تلك النصائح كان السياسيون يسدون أسماعهم ويغلقون اذانهم، ويغلّفون بصائرهم بالجهل المتعمد، ولا يأبهون بمصالح الشعب ولا بحياته حاضرا أو مستقبلا، وكأنه شعب ميت في نظرهم!!.

فتضاعفت مظاهر الفقر والجوع، وتزايد المشردون والمتسولون والجياع، وبزغت طبقة أقلية ثرية، اغتنت على حساب الطبقة الاكبر من الشعب، من خلال الصفقات المشبوهة والاختلاس وغسيل الاموال، واحتكرت احزاب السلطة الوظائف لها ولعوائلها وذويها وافراد احزابها حتى أن بعض الاعلاميين أطلقوا عليها تسمية (التعينات العائلية) حيث تجد عائلة كاملة في قسم واحد من دائرة صغيرة، فيما تم تهميش الآخرين جميعا وكأنهم ليسوا عراقيين، فبقي آلاف الخرجين بلا عمل، يعانون من البطالة والفراغ والحرمان معا.

وظهرت شرائح فقيرة اخرى، منهم من سكن بيوت (التجاوز) التي تم بناؤها بالطين أو (التنك)، وراحت عمالة الاطفال تزدهر في المدن الوسطى والجنوبية، فيما تزايدت ظاهرة التسول (ذكور واناث) على نحو خطير، أما السلة الغذائية عبر البطاقة التموينية، (سلة الفقراء) فهي الاخرى لم تسلم من السراق الذين نزعوا ضمائرهم وتركوها على قارعة الظلم والاهمال، على الرغم من ان موادها تعد من أردأ المواد نوعا ومنشأً وسعرا.

محاصرة رؤوس الفساد

كل هذا والمصلحون يطلقون النصائح تلو الاخرى لرؤوس الكتل السياسية، ويطالبون بوقف حيتان الفساد عن أفعالهم الدنيئة، والكف عن محاربة الشعب، والكف عن اساليب هدر المال العام التي تفنن بها العاملون في في المراكز المالية الحساسة، بالاضافة الى ذلك تم تدمير الصناعة بشكل كامل، وتم تدمير الزراعة كذلك، وراح البنك المركزي يتصرف وكأنه مؤسسة مستقلة بعيدة عن المراقبة والحساب، فيبيع مئات مليارات الدولارات بحجة المبادلات التجارية والاعتمادات وما شابه، فيدخل العراق ربع ما يخرج منه من العملة الصعبة في سرقة منظمة وواضحة للمال العام امام عيون السلطة القضائية والتنفيذية والتشريعية ايضا، ما يدل على أن هناك من يشترك في هذه العمليات من داخل هذه السلطات، او من الطبقة السياسية، وقد نبهت المرجعية الى هذا الوضع الخطير، ولكن لا حياة لمن تنادي، ولا حياء واذا لم تستحِ فافعل ما شئتّ!.

وهكذا فإنهم جميعا لم يعيروا نصائح (الأب) أي اهتمام، ولم يأخذوا نصيحته التي ظل يكررها مرارا عليهم مأخذ الجد حول أهمية (قتل قتّال الكلب)، بمعنى أن الطبقة السياسية أهملت نصائح المرجعية وعموم المصلحين والحكماء، وفضلت الرؤوس الاستمرار بحصد المغانم والمزايا السلطوية والمالية على حساب تدمير البلد تدميرا شاملا ومنظما، وهذا قاد بدوره الى تدمير الشعب تدميرا مستمرا، ومورست ضده سياسة إضعاف واضحة، فبدأت نسب الفقر تزداد بصورة لافتة، وبدأت الأقلية الحاكمة تصبح أكثر ثراء وتنمرا وتكبرا على الشعب الذي قرر أخير أن (يقتل قتال الكلب) بنفسه، ولا ينتظر من الطبقة السياسية الحاكمة أن تنقذه من الدمار الذي يحاصره من كل حدب وصوب، لا ينتظر منها أن تقوم بهذه المهمة لأنها هي السبب!.

وختاما.. هل هي الفرصة الاخيرة للكتل والاحزاب السياسية؟؟ الجواب لقد ولّى زمن (الفرصة الأخيرة)، ولم تعد هناك فرصة أمامهم كما يبدو، لقد أهملوا النصائح طيلة (13) سنة مضت، واليوم عليهم أن يستفيدوا من الاوضاع الراهنة بما يحافظ على ماء الوجه، أما كيف يتم ذلك؟، نعم هناك امكانية أن يتم ذلك فيما لو هطلت عليهم أمطار الحكمة وتخلوا عن السلطة، الى هنا، الى هذا الحد عليهم الاكتفاء، والخروج من دائرة اللعبة التي أنهكت الشعب والدولة، فكما يبدو أن الشعب وعى ما يريد وعرف من هو عدوه، وبدأت مرحلة جديدة، تشير جميع الأدلة الى أنها مرحلة بناء عراق جديد، وهذا يؤكد أن العراق كالعنقاء فعلا، دائما ينهض من تحت ركام الرماد.

اضف تعليق