منذ سنة من الآن، اندلعت الاحتجاجات وتواصلت موجة المظاهرات في بغداد والمحافظات على نحو متتابع في كل جمعة، ولم تتوقف منذ ان انطلقت شرارتها الاولي في صيف العام الماضي، قد تكون واجهت بعض الخفوت هنا أو هناك، ولكن جذوتها بقيت مشتعلة، حيث طالب المتظاهرون الحكومة والنظام السياسي في بغداد، بإجراء اصلاحات جوهرية وليست شكلية، تبدأ بملاحقة رؤوس الفساد، ولا تنتهي إلا بعد أن تنظف الاجهزة الحكومية والمالية والتجارية والاقتصادية التابعة للدولة من غول الفساد الذي أنهك الشعب والدولة.
دخلت المرجعية على الخط منذ أوائل موجة المظاهرات، ودعمت رئيس الوزراء، وقدمت حلولا ودعما وتوجيهات للكتل والاحزاب السياسية، لكن مع مرور الوقت بقيت الطبقة السياسية تراوح في مكانها، وقد ضاعف الوضع تدهورا، الازمة المالية التي ضربت الدولة ومؤسساتها المالية، فقد كانت الوفرة المالية الكبيرة، عندما بلغ سعر برميل النفط (اكثر من 100دولار)، وكان الفساد والسرقات لا تؤثر بقوة على الرواتب واداء الحكومة.
ولكن بعد ان هبطت اسعار النفط الى اقل من (30) دولارا للبرميل الواحد، أشرقت الشمس على الفساد وأصحابه من الطبقة السياسية، وبدأت تفضحهم، لاسيما بعد أن تلكأت الحكومة بالاصلاح، وراحت تفرض الضرائب على الفقراء في مجال الصحة والرواتب القليلة اصلا، بل حتى المتقاعدين لم يسلموا من تلك الاجراءات الفاشلة، والحلول التي تنمّ عن لا مبالاة الحكومة والطبقية السياسية ازاء الاصلاح الحقيقي ومعالجة معاناة الناس بصورة جذرية.
وبسبب الغباء السياسي الذي يتحلى به المسؤولون، وبسبب دس رؤوس قادة الكتل والاحزاب والحكومة في الرمال تحاشيا للخطر، وكأنهم يشعرون بالاطمئنان نتيجة لهذا السلوك الخاطئ، فبدلا من اتخاذ الاجراءات الاصلاحية الكبرى، والمدعومة من المرجعة والشعب، راحت الحكومة ومن ورائها الكتل والاحزاب تتهرب من مسؤولياتها، وتدس رؤوسها في الرمال، وتهمل اجراءات الاصلاح الحقيقي بغباء غريب!!.
الى أن بلغ السيل الزبى، وراحت المرجعية تعلن بالفلم العريض، أن الامور بلغت من السوء أقصاها، واعلنت أسفها لأن الحكومة لم تقم بواجبها كما ينبغي في معالجة الفساد، كما أن الكتل والاحزاب بقيت تماطل وتصارع بعضها على امل تحقيق مكاسب اكبر، حتى في ظل الموجات الخطيرة التي تضرب (المركب العراقي) وهو يحاول أن يعبر الازمة المالية الراهنة، التي تضاعفت مخاطرها عشرات المرات بسبب هدر المال العام والاختلاس وغسيل الاموال وتهريبها الى الخارج، مما جعل الامور تمضي قُدُما من سوء الى سوء.
عندما يبلغ السيل الزبى
خلال سنة مضت، لم تُظهر الطبقة السياسية الحاكمة، مؤشرات أو علامات، ولم تبعث برسائل جادة عن نيتها بالقيام بالاصلاح الجذري الذي ينقذ البلاد من الغرق في بحر الفوضى والفقر والمجهول القادم، بل أبدتْ هذه الطبقة تمسكا بمصالحها اكثر من السابق، وبدت وكأنها لم تكترث بالظروف الخطيرة التي يمر بها العراق، خاصة ما يتعلق بالازمة المالية وتداعياتها، ولم تقم الحكومة والمؤسسات المعنية (القضاء، والنزاهة)، بما ينبغي عليها من اجراءات حقيقية لوضع حد للفساد المالي واستعادة الاموال المنهوبة الى ميزانية الشعب.
وبعد كل هذه المؤشرات، وبعد أن بلغ السيل الزبى، أعلنت المرجعية أسفها من تلكّؤ الحكومة، وأظهرت موقف الامتعاض من الساسة عندما ألغت الخطبة السياسية الاسبوعية، في اجراء واضح يؤكد رفع يد المرجعية عن الكتل والاحزاب السياسية المشاركة في السلطة وادارة البلاد، ومع ذلك بقيت الطبقة السياسة تسير في اتجاه اللامبالاة والفوضى، وطيلة عمليات التسويف، والمحاولات الواضحة لتخدير الشعب، وإلقاء تبعت الفشل المالي والسياسي عليه، ومع ذلك بقيت المظاهرات مستمرة، ولم ينفع هذا الاستمرار الحكومة ولا السياسيين باعتباره مؤشر على أهمية وحتمية الاصلاح.
ومن المسف حقا، أن الطبقة السياسية وخاصة المشاركين في قيادة الدولة في السلطة التنفيذية او سواها، من المؤسف أنهم كانوا يرددون في الخفاء والعلن، أن لا فائدة من المظاهرات، وأن الشعب سوف يتعب وتعود الامور الى ما كانت عليه، وكانت هذه الطبقة ومن يشغل مناصب في الحكومة، يؤكدون أن الشعب لن يستمر في مظاهراته الى الابد، والدليل قلة حماسة الجماهير وقلة اعداد المتظاهرين يوما بعد آخر، وكأنهم يؤمّلون أنفسهم بانطفاء جذوة التظاهر، حتى يبقى الفساد كما هو عليه، ويبقى الفاسدون في منأى عن القصاص، وتبقى أموال الشعب المنهوبة عصيّة على الاسترداد.
في قلب هذا اليأس وهذا الضمور وهذا الضعف الذي بدأت تعاني منه المظاهرات، كان هناك فقراء لا زالوا يحلمون بالغد الأفضل، ولا يزال أمل الاصلاح شمعة تضيء الطريق أمامهم، هؤلاء حتى وإن كانوا قليلي العدد، لكنهم لم ييأسوا، ولم يتوقفوا عن المطالبة بحقوقهم، الأمر الذي أعاد المسؤولية مرة اخرى الى المرجعية كي تقول الكلمة الفصل ازاء اوضاع العراق، وحالة الفساد التي تعصف فيه، وتحاول تدمير حاضر البلاد ومستقبله، مقابل احتفاظ الطبقة الحاكمة بامتيازاتها وحماية مصالحها ومنافعها، فيما يتواصل مسلسل تدمير فقراء الشعب يوما بعد آخر.
وهذا الإصرار الغريب على إهمال الاصلاح، وعدم قيام الحكومة والمشتركين بالعملية السياسية في اتخاذ ما يلزم للقضاء على الفساد، ووقف عمليات تهريب العملة الصعبة الى خارج البلاد، كل هذه وغيره من الأدلة القاطعة على عدم الاصلاح، أعاد للمظاهرات حضورها الفاعل وتأثيرها القاطع، وهو أمر ينبغي أن تأخذ الطبقة السياسية والحكومة مأخذ الجدية التامة، اذا ما كان هؤلاء حريصين على انقاذ السفين العراقي من الغرق بهم وبغيرهم من الناس!.
ضبابية الفرصة الأخيرة
بعد مظاهرات الجمعة الاخيرة (يوم أمس) خاصة في العاصمة بغداد والمحافظات، وما أفرزته من تداعيات تتأرجح بين الوضوح والضبابية، لم تعد حساسية الأوضاع وخطورتها خافية على أحد، فما يحدث اليوم في العراق، يشبه حال مركب في أعماق اليم، تتقاذفه الامواج العاتية، وهو في طريقه الى الغرق، اذا لم يتصدَ لمهمة إنقاذه قادة على قدر تاريخي من المسؤولية، فالوضع لم يعد قابلا للإهمال والتسويف أو التأجيل في انتظار حلول من المجهول، إن الطبقة السياسية مسؤولة اليوم مسؤولية تاريخية لكي ترسو بمركب العراق، وتقوده نحو شاطئ الأمان، وهذا الأمر يستدعي اتخاذ خطوات عملاقة تضاهي الخطر الذي يمر به العراق والأوضاع البالغة الخطورة والتداخل والتعقيد والضبابية.
من هذه الخطوات التي ينبغي أن تفهمها الحكومة ومؤسسات الدولة، وتدرسها وتبادر بها:
- أن تفهم الطبقة السياسية في العراق، أنها تتعامل مع فرصتها الأخيرة لإنقاذ البلاد.
- أن تضع الكتل والاحزاب مصالح الشعب والدولة فوق مصالحها، مجبرة وغير مخيّرة.
- أن يفهم القادة والسياسيون الداخلون في العملية السياسية، أنهم يمرون بمنعطف خطير.
- أن تتخذ السلطات المسؤولة في الدولة، قرارات اصلاحية يقتنع بها الشعب.
- أهم هذه القرارات وضع رؤوس الفساد خلف القضبان، واعطاء اشارات قاطعة حول اعادة أموال الشعب المنهوبة الى خزينة الدولة.
- على الكتل والاحزاب أن تسقط المنهج السابق الذي اعتمدته قبل اليوم، وهو المنهج الذي أوصل البلاد الى ما وصلت إليه اليوم من تشتت وفوضى.
- الشروع الفوري بمحاربة الفساد وكل من يتخندق خلفه، مع تعضيد القضاء والنزاهة لاداء دورهما الحازم في هذا المجال.
- عدم العودة مطلقا، الى اسلوب غض الطرف عن رؤوس الفساد بسبب نفوذهم او انتمائهم الى كتل واحزاب قوية، على العكس ينبغي تطبيق معادلة حازمة، كلما كان الفاسد أعلى مسؤولية كلما يكون الحزم أقوى وأشد في التعامل معه.
- لابد من وضع ضوابط حازمة لحماية البلاد من الانزلاق الى الفوضى.
- التعامل مع هذا المنعطف الخطير بهدوء وحزم وبروح المسؤولية الحكيمة التي تعي خطورة المرحلة.
- لا ينبغي حدوث اي تصادم بين الشعب والاجهزة الامنية مهما كانت الأسباب، وهذه مسؤولية الحكماء من الساسة حصرا.
- أن يعلن الجميع مبدأ التمسك بإنقاذ البلاد من الغرق.. وان يكون الجميع على استعداد للتضحية المادية (سلطة، أو اموال) وسواها حفظا وحماية للشعب والدولة، فهي أمل الجميع وحاضرهم ومستقبلهم.
اضف تعليق