في عالم الأمس قد تلتقي السياسة بالصراع، وربما كان يسعى السياسيون الى كسر شوكة الآخر، لاسيما المتناقضون الذين يعادون بعضهم البعض، في أجواء لا علاقة لها بالديمقراطية، ولا تحكمها قواعد أو قوانين أو تشريعات قائمة على التوازن، فتكون السياسة عبارة عن ساحة للصراع يأكل فيها القوي الضعيف، وتغيب قواعد اللعبة وتصبح الديمقراطية في خبر كان، ولا يبقى منها في عالم السياسة سوى اسمها.
علما أن الديمقراطية هي ساحة للتنافس وليس للصراع، ومتى ما كان هناك صراع سياسي بين العاملين في السياسة، فهذا يعني أمرين لا ثالث لهما، أما تكون الديمقراطية كاذبة ومخادعة اذا سمحت بالصراع، واما تكون ديمقراطية بالاسم فقط لا غير، وفي هذه الحالة لن يكون اي تأثير للديمقراطي على العمل السياسي، بسبب تواجد الصراع السياسي بدلا من التنافس.
فكما يؤكد المفكرون والباحثون في فضاء السياسة وعلمها، أن الصراع والديمقراطية مفردتان تقفان من حيث المعنى والفعل بالضد من بعضهما، ولا تلتقيان في ساحة السياسة إلا في حالة اختلال العمل السياسي، وانحرافه في مسارات قد لا تمت بصلة للديمقراطية بمفهومها المتَّفق عليه، بمعنى أوضح، أينما توجد الديمقراطية على نحو صحيح، ينتفي الصراع كمصدر تقاطع واحتراب بين السياسيين، أو بين الجماعات التي تنشط من اجل الوصول الى السلطة، ويصح العكس بطبيعة الحال، كما كان يحدث في العراق وسواه من الدول المتأخرة سياسيا، عندما كان الصراع بين القوى السياسية، يؤدي الى انتزاع السلطة بالقوة وفق أسلوب الانقلابات العسكرية بالقوة الغاشمة، بعيدا عن النهج الديمقراطي وصناديق الاقتراع، وبعيدا عن تداول السلطة السلمي عبر المؤسسات الدستورية للدولة المدنية.
لذا هناك خشية من ديمقراطية العراق، كونها صارت سببا للصراع بين السياسيين وتسقيط بعضهم البعض، بينما الديمقراطية الصحيحة هي ديمقراطية التنافس القائم على قواعد اللعبة، اذاً
فالبديل للصراع السياسي، هو التنافس الديمقراطي، وهو ما حاولت العملية السياسية ترسيخه كمنهج عمل سياسي يتيح للعراقيين التداول السلمي للسلطة وبناء مؤسسات الدولية المدنية، فهل تبدو الساحة السياسية العراقية كما أريد لها أن تكون، فضاءً ديمقراطيا قائما على التنافس السلمي بين الاحزاب والكتل السياسية، أم أن العكس هو الصحيح، وهل يعني هذا فشل الديمقراطية حتى الان في تحقيق الخطوة السليمة لبناء الدولة؟
الصراع الخفي بين الأحزاب
منذ عقد ونيف، لم يتعلم السياسيون في العراق دروسا كافية من الواقع السياسي المرير، على الرغم من أنهم كانوا معارضين للنظام السابق، ووعدوا الشعب العراقي بالتعويض من خلال بناء النظام السياسي الديمقراطي القادر على حماية حقوق الشعب وتعويضه عما فاته من مكاسب، وتعويضه عما لحق به من ظلم وإجحاف.
هذا يعني أن السياسيين مطالبون بالنهوض بالبلد، والتخلي عن النزعة المصلحية الأنانية التي تلحق الأذى بالشعب وبمستقبلهم السياسي، حيث يؤكد واقع الساحة السياسية العراقية وجود مخاطر في طريقها الى التفاقم، يفرزها صراع خفي بين القوى السياسية، يتحرك هذا الصراع خلف ستار ديمقراطي هش، كما أكد ذلك كثير من المراقبين والمهتمين بهذا الشأن، ليأخذ مكان التنافس الديمقراطي السليم، ويضع الحراك السياسي في المسار الديمقراطي الآمن.
ومن المهم أن تكون الحكمة السياسية والرؤية بعيدة النظر، أسلوبا للسياسيين لادامة العمل في السياسة، وليس الصراع على المنافع الآنية الزائلة، على حساب مصالح وحقوق الشعب، لذا ينبغي أن يتصدى العاملون في هذا المضمار لهذه الظاهرة الخطيرة، بغض النظر عن الهوة الكبيرة التي تفصل بين الفرقاء، سواء في الافكار او الاهداف أو في وسائل العمل السياسي، لأن تحوّل التنافس الى صراع وتقاطع كلّي، يعني العودة الى اساليب الاستحواذ على السلطة بالقوة، بمعنى أكثر وضوحا، عودة الى الانقلابات العسكرية، وهي نتيجة تقضي بشكل تام على تطلع العراقيين لبناء الدولة الجديدة المتحضرة التي تنتمي الى روح العصر، وهذه نتائج سيئة تقضي على حلم الشعب بقيام الدولة المدنية والنظام السياسي الديمقراطي.
على الجميع أن يرفضوا العودة الى الاحتراب في الوصول الى السلطة، ولابد أن يتعلّم ويؤمن السياسيون العراقيون، لاسيما الفرقاء والكتل الكبيرة والاحزاب والشخصيات السياسية المستقلة، أن لا عودة للصراع والاحتراب في العمل السياسي العراقي، بل هناك تنافس يستند الى ضوابط مأخوذة من بنود الدستور، وما عدا ذلك ينبغي أن يتم نبذه كليّا من لدن جميع السياسيين، فالجميع لهم حرية التقاطع واختلاف الآراء والبرامج السياسية، على أن يتم ذلك تحت مظلة التنافس الديمقراطي، وقد تعلّم بعض القادة السياسيين قواعد اللعبة الديمقراطية، وقطعوا شوطا في مجال التأسيس لعملية سياسية ديمقراطية تنافسية، لا مكان لوسائل القوة في إدارتها، وما يؤكد ذلك الدورات الانتخابية المتعددة لاختيار النواب لأكثر من دورة، وكذا فيما يتعلق بمجالس المحافظات، وحتى المجالس البلدية بالنسبة للاقضية والنواحي، فضلا عن عمل مؤسسات الدولة المستقلة والفصل بين السلطات وهذا بالضبط هو السعي الصحيح والطريق الصواب الذي يقود الدولة العراقية الى بر الأمان والتعددية.
خلل في التنافس بين السياسيين
ثمة مشكلة تعاني منها الساحة السياسة في العراق، فالطبقة السياسية غير مهتمة بثوابت تحكم الحراك السياسي، علما أن جميع الانظمة الديمقراطية السليمة، وضعت لها خارطة طريق تتحرك عليها بأمان، لكي تضبط إيقاع حركتها، وتحافظ على حقوق الجميع، وتمنع من تحول التنافس الديمقراطي الى صراع سياسي قائم على الغبن والفوضى والعبث.
ولكن ما يحدث في الساحة العراقية، هو صراع قد يصل أحيانا الى التصفية الجسدية، اما التشهير والقذف فهو قائم على قدم وساق في وسائل الاعلام، ولهذا فإن التنافس الديمقراطي يختل في كثير من الاحيان، ويكاد يتحول الى حالة صراع تنذر بعواقب وخيمة، كما يحدث في الساحة السياسية والتجاذبات المخيفة بين الكتل السياسية الكبيرة واطلاق تصريحات متشنجة ومتناقضة لوسائل الاعلام، تزيد من المخاوف والتشنجات، التي قد تؤدي الى نتائج لا يُحمَد عقباها.
إن صناعة الازمات التي تقوم بها بعض الكتل والاحزاب والشخصيات السياسية لن تخدما أصحابها، وفي نفس الوقت لا يمكن أن تساعد على بناء الدولة الدستورية، ومع أن التنافس الديمقراطي لا يزال يشكل طريقا مناسبا للوصول الى السلطة، إلا أن بوادر الصراع تظهر بين حين وآخر لتزيد من حالة الارتباك والخوف بين العراقيين، لاسيما بين المعنيين والمتابعين لما يدور في الساحة السياسية، حيث يأمل الجميع بتصحيح دائم ومراقبة مستمرة للعمل السياسي حتى لا ينحرف من قواعد المنافسة السليمة الى الصراع الدامي .
خلاصة القول، أن الفرصة لا تزال قائمة امام الطبقة السياسية في العراق، وأن امكانية تحقيق بناء الدولة المدنية القادرة على حماية حقوق الجميع لا تزال حاضرة، شريطة أن يبقى الصراع والاحتراب بعيدا عن العملية السياسية، وأن تدعم القوى السياسية البديل الملائم للقوة، وهو التنافس بين العاملين في السياسة ديمقراطيا، وأن يتعلم السياسيون إدارة اللعبة السياسية وفقا للضوابط الديمقراطية، التي تحضُر كليا، استخدام القوة، كطريق للوصول للسلطة، وأن تسود ثقافة القبول بالنتائج البرلمانية فيما يتعلق بالتصويت، وأن يفهم الجميع، أن السلطة ما عادت حكرا على أحد، وأن الاجدر بالحصول على دفة القيادة هو السياسي القادر على كسب السلطة سلميا ودستوريا عبر صناديق الاقتراع على ان تتم الانتخابات تحت مظلة النزاهة التامة.
اضف تعليق