يلتقي شريحة من المتصدّين لأمر النهضة في الامة، عند النظرية الواقعية، والقول؛ بأن تحقيق النهضة في مختلف الاصعدة، يتطلب جملة من الشروط والمقدمات الموضوعية، ومن دونها يكون الحديث عن هكذا موضوع، ضرباً من الوهم والخيال او الآمال الطموحات المجنحة التي لا تلامس الواقع ولا يكون لها نصيب من النجاح.
وبما أن محور النهضة هو الانسان لا غير، فان هذه المقدمات تدعوه لجملة استحقاقات في الثقافة والسلوك والوعي والالتزام وغيرها من الشروط، لذا وجدنا بعض المفكرين والعلماء، وصفوا مبادرات النهوض بواقع هذا الشعب او ذاك، سواءً على الصعيد السياسي او الاقتصادي او الثقافي، بانها لن تكون ذات جدوى، فانها على الصعيد السياسي والتحرك باتجاه حصون السلطة والبلاط، يعدونها بمنزلة الانتحار، وعلى الصعيد الثقافي بمنزلة الاسفاف ومضيعة للوقت مع شرائح اجتماعية صعبة المراس ذات حنين دائم الى التخلف والجمود على العادات والتقاليد.
هذا التوجه الفكري له قدر من الصحة في جانب التأسيس والبنية التحتية للنهضة، إذ من غير المعقول انتظار المعاجز للتغيير، او الاستغراق في التنظير بأشكال وصور مثالية، إنما اقتضاء المنطق والعقل أن تكون هنالك مقدمات او مسببات لما يمكن ان يحصل. ولكن...! عندما يخفي هذا التوجه خليطاً من مشاعر الضعف والضعة وعدم الثقة بالنفس والآخرين، فانه حتى مع توفر هذه المقدمات، مثلاً؛ كان هنالك مستوى لابأس به من الوعي والثقافة لدى الناس، فان النخبة المثقفة والمتصدية والمفترض انها تتحمل المسؤولية، ستأتي بشروط أخرى لابد من توفرها مثل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
وبالرغم من أن سماحة المرجع الديني الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- كان معروفاً بواقعيته في جميع نظرياته وافكاره، لاسيما ما يتعلق بالنهضة والتغيير الجذري، وابتعاده عن المثالية، فانه في الوقت نفسه يؤكد على أن التحرك بأي اتجاه للتغيير او الإصلاح لابد من استصحاب "التحدي" كأداة ضاربة لكل المعوقات في الطريق، على أن التغيير بالاساس يُعد بمنزلة العملية الجراحية التي يتقبلها الانسان مرغماً، لما يتطلبه من تحمّل الآثار المترتبة من آلام وخسارة في الدماء.
ومن أبرز الامثلة على ذلك دعوته المتكررة الى الاكتفاء الذاتي، وجاءت في غير مؤلف، وفي كثير من محاضراته و احاديثه، بيد أن هذا الطموح الكبير دونه استحقاقات كبيرة ايضاً، بل البعض يعده عملية شبه مستحيلة بالنسبة لبلادنا في المرحلة الراهنة. وقد بين سماحته بأن هذه القضية ذات البعد الاقتصادي ليس بالضرورة تقتصر على آليات من نفس الاتجاه، إنما يرتبط الامر بالإرادة والعزيمة والثقة بالنفس، وسلسلة من الاجراءات التي تنضوي كلها ضمن حالة التحدي ومواجهة التيار العام الذي يفضل الواقع الموجود، وعدم إجباره على التخلّي عن نمط من الحياة مرفهة بالاعتماد على المستورد من الخارج.
وهكذا الحال بالنسبة للتغير على الصعيد السياسي الذي تعترضه جملة من العقبات التي تحتاج الى جملة من التحديات والتضحيات، من هنا نجد أن سماحة الامام الشيراز ي قدس سره- في كتابه "الصياغة الجديدة- يدعو الى "الاستهانة بالأخطار في سبيل الهدف". ويعد ذلك من عوامل التقدم الحضاري الذي حظي به المسلمون الاوائل وتمكنوا من خلاله "إنقاذ العالم من براثن الكفر والجهل والفوضى والحروب".
فاذا تعذر اليوم تحقيق هذا الطموح الكبير الذي طالما تحدث عنه الامام الشيرازي، فان استحقاق اليوم تحقيق طموحات ضمن أطر جغرافية محدودة، كما نشهده في الدول المأزومة حالياً، وتتطلب التغيير والإصلاح مهما كان الثمن، نظراً لحجم التصدعات في انظمة الحكم الديكتاتورية التي لا تفكر سوى بسلامة الحاكم وعمره المديد على كرسي الحكم. لذا لزم تحدي الظروف والعقبات مهما كانت، والسبيل الى ذلك ما يشير اليه سماحة الامام الشيرازي بعدم الاعتناء بهيبة الحاكم او اسمه او افعاله او غير ذلك، بل الاستهانة بكل ذلك.
هذه الاستهانة (التحدي) تظهر باشكال مختلفة حسب الظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة بكل شعب، فربما يكون التحدي في هذا البلد للتقاليد البالية والحنين الى التخلف الجاهلي القديم، او يكون في مكان آخر، للديكتاتورية الحزبية او الرؤية الخاطئة في ادارة الحكم، او في مكان آخر هنالك تحدي الضغوطات الخارجية.
هنا ربما يسأل البعض عن جدوائية كل المساعي على أمل خلق واقع جديد افضل للجميع، في وقت تفشّي منطق العنف والدموية وشراء الذمم على نطاق واسع بالعالم؟، ان النهضة التي نتحدث عنها، ليست هي حكومة انتقالية في البلاد المأزومة بالحروب، او حكومة في نظام برلماني – ديمقراطي، إنما هو مشروع حضاري متكامل، فالنهضة ستكون على صعيد الفرد والمجتمع، وفي مختلف القطاعات الانتاجية والمراكز العلمية والبحثية وغيرها. فاذا عالج القائمون على المشروع مشكلة الضعف والشعور بالضعة بالتحدي والعزم، فان آثار هذه المواقف ستبقى للجيل الجديد او حتى الاجيال القادمة. فهي ستجد حجم الجهود المضنية المبذولة من اجل ان يصلوا الى المرحلة التي هم عليه من تطور وتقدم في كل شيء.
وهذا هو حال الثورات والانتفاضات في العالم الثالث، فعندما يخلع المتصدون لباس الضعف واقتلوا جذور الهزيمة النفسية من داخله سيتمكن عندئذ نقل التجربة الى الشريحة المثقفة والمتعلمة ثم تنتقل الى شرائح المجتمع كافة، فتعبد طرق النهضة والتغيير الشامل من منطلق القوة والاقتدار.
اضف تعليق