الرسالة التي بشّر بها الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، كلها حق وخير وفضيلة للانسانية، لانها تستند الى منهج رصين (القرآن الكريم) منزلٌ من عند "حكيم عليم". هذا ما عرفه المسلمون الأوائل في فجر الدعوة الاسلامية ومن أجله بذلوا وضحوا بكل شيء، حتى أصبح كل وجودهم وكيانهم، لذا فهم يشعرون بالتحسّس الشديد من أي سلوك او تصرف يناقض المنهج الجديد، فيتوثبون لإزالته عن الطريق او ربما تغييره في الحال. وهذه تبدو قضية طبيعية في نفس الانسان، فالعقيدة والايمان، تحتل منطقة واسعة في كيانه، وتمثل شخصيته وتقرر مستقبله ومصيره. لذا فهو يريدها نقيّة سالمة وصحيحة له وللآخرين على طول الخط.
وفي السيرة المطهّرة نلاحظ مواقف متشنجة عديدة ظهرت من الاصحاب و ردود فعل سريعة إزاء تصرفات وأعمال صدرت من هذا او ذاك، مثل اليهودي الذي حبس النبي الأكرم بعد أن استوقفه لدين عليه، أو ذاك الاعرابي الذي جذب ردائه بعنف، او حتى الذين ارتكبوا أخطاء ومخالفات خطيرة على مستوى كيان الدولة الاسلامية آنذاك، والامثلة عديدة في هذا المجال، ربما أبرزها أولئك الذين خالفوا أمر النبي في معركة أحد ونزلوا من الجبل وتسببوا في خسائر فادحة للمسلمين. فما كان رد فعل النبي...؟
الروايات لا تذكر لنا أن النبي عاقب ذات يوم أي شخص على تصرف قام به أو خطأ ارتكبه، نعم؛ يبين الخطأ ويضع يده على موقع الخلل والثغرة ثم يدعو لإصلاحها، وأحياناً تظهر عليه إمارات الغضب والانزعاج، وإن كان الخطأ جسيماً يمتد الى ابعاد واسعة، فانه يتبرأ منه حتى لا يتحول الى سنّة ويقتدي به الناس من بعده. ولعل المثال الأبرز في ذلك الواقعة الشهيرة التي خلقها "خالد ابن الوليد" عندما ارتكب مجزرة مروعة ضد قوم "بني جذيمة" وقتل منهم نفراً بحجة واهية، خلافاً للمهمة التي أوكلها اليه رسول الله، فكان رد الفعل الشهير له، صلى الله عليه وآله، أن تبرأ الى الله من "فعل خالد".
لنتصور العهد الذي كان يعيش فيه رسول الله، وكيف كانت حالة المسلمين معه، عندما يرون انحرافاً معيناً في السلوك والمواقف، ثم لنلقي نظرة على الواقع الموجود حالياً، وحالة التوتر التي تتملّك البعض عند حصول خطأ معين من هذا او ذاك... فمن الأجدر بالانفعال؛ نحن الذين نعيش في ظل غياب الولي المعصوم الذي يقدم لنا النموذج الأكمل، أم أولئك الذين عاشوا بين يدي خاتم الانبياء والمرسلين، وخير البشر أجمعين؟!
هذه النقطة الدقيقة والحساسة يشير اليها سماحة المرجع الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "لكيلا تتنازعوا"، ويبين كيف أن النبي الأكرم بحكمته وكياسته واستيعابه للجميع، تمكن من بناء مجتمع ومن ثم أمة عظيمة. فالقضية ليست بالسهولة التي يتصورها البعض؛ هذا يُخطئ فيعاقب فوراً، أو ذاك يقوم بعمل ما فيُضرب على يديه – مثلاً-....! او غير ذلك، إنما القضية لها أبعاد حضارية حقاً، فالاسلام الذي يحمل القيم والمبادئ والتعاليم، ليس وحده في هذه الحياة، فهناك مذاهب وتوجهات في العالم تدعو الى نفس القيم والمبادئ، وتتطاول وتدّعي الأحقية، فاذا تم اتخاذ الاجراءات الانفعالية والسريعة ضد هذا وذاك، فمعنى هذا، أن "لا يبقى حجرٌ على حجر"، لأن الانسان مجبول على الخطأ والزلل والنسيان، فهو بحاجة دائماً الى تذكير وتقويم وتصحيح. لذا كان رسول الله ينظر الى أبعد نقطة في كيان الأمة، قبل ان ينظر الى نقطة الخطأ والخلل أمامه، لاسيما اذا كان كبيراً وخطيراً، وأن لا تسبب المعالجة نزيفاً يلحق الضرر بالمجتمع والامة، وفي ضوء قانون الفعل ورد الفعل، فان الاجراء العنيف يستتبع رد الفعل العنيف بالضرورة. من هنا يشير سماحة الامام الراحل الى حكمة النبي في تقوية الجبهة الداخلية، والحؤول دون اضمحلال الكيان الاسلامي لصالح تماسك وتعاظم الجبهة المقابلة.
ولعل من أبرز الامثلة على ذلك، حالة النفاق التي كانت سائدة في صدر الاسلام، وما تزال تواكب المجتمع والامة، فالنبي الأكرم، لم يكن ليخفى عليه نفاق البعض وازدواجية مواقفهم، إنما كان يريد أولاً: اختراق المجتمع الجاهلي وتفريقه للقضاء عليه من خلال استيعاب هذا النفر من الاشخاص، وثانياً: الظهور أمام الأمم الاخرى كأمة كبيرة مترامية الاطراف. كل ذلك، تم بالأخلاق العالية والسامية التي اختصّ بها، صلى الله عليه وآله، حتى أن المديح والإطراء جاء من السماء وتصدح الآية الكريمة في حقه: {وأنك لعلى خلقٍ عظيم}.
بهذه الرؤية الاستراتيجية والنظرة الشمولية، تعامل النبي الأكرم، مع التصرفات الخاطئة وحتى السلوك السيئ لبعض الناس، وهكذا بنى المجتمع والامة، بل وهذا تحديداً ما أثار حفيظة علماء الغرب من مؤرخين واجتماعيين وفلاسفة، في كيفية تحويل مجتمع جاهلي، يسوده الظلم والعدوان والقسوة، الى مجتمع يعلّم دروساً للعالم في الرحمة والفضيلة والكرامة الانسانية....؟ ربما توصلوا الى الجواب أم لا... بيد أن الحقيقة الواضحة لنا، ذوبان كل الطاقات والجهود والعقول في بوتقة واحدة، وهي إعلاء كلمة الاسلام في العالم. فهناك من يُسهم بخمسين بالمئة – مثلاً- وهناك عشرة، أو حتى واحد بالمئة، فالجميع يشكلون بناءً شامخاً ومتماسكاً.
ولابد من الاشارة الى قضية هامة في هذا السياق، وهي أن تساؤلات المستشرقين بشكل عام، جاءت في العهود الاخيرة، ولم تأت في القرون الاولى من تاريخ الاسلام، بمعنى أن الاسلام الذي يراه العالم حيّاً نابضاً رغم الفتن السياسية والتجاذبات المذهبية والفكرية، وهو ما يزال عصيّاً على التصدّع، كما هو حال سائر الاديان والمذاهب، فان الفضل يعود الى المسيرة المتواصلة للنهج النبوي – المحمدي، متمثلة في الأئمة الاثني عشر، عليهم السلام، وما خلفوه لنا من تراث حضاري وانساني، وفي عهد غيبة الامام الثاني عشر، الحجة المنتظر – عجل الله فرجه- نلاحظ تحمّل الأمانة الرسالية من قبل علماء الدين. ولمن يريد البحث اكثر في هذا المجال، له أن يطالع بعض مؤلفات سماحة الامام الشيرازي الراحل، وهو يتحدث عن منهج العلماء ممن تسنّموا مسؤولية زعامة الحوزة العلمية، وتبوأوا منزلة اجتماعية كبيرة، وكيف أنهم تعاملوا مع أخطاء كبيرة صدرت من هذا وذاك. وفضلوا الإصلاح والتغيير الهادئ وغير المباشر على العقاب والتشهير بما يسبب تصدّعات في البناء الاجتماعي ثم الحضاري للأمة.
اضف تعليق