q

يسعى قادة النخب في المجتمعات المتطورة، لصناعة قاعدة اجتماعية علمية قوامها الشباب، والكفاءات التي تستطيع أن تسهم في تطوير المجتمع، وتساعد على نقله الى مراتب عليا، وهذه المهمة التي تبدو عصيبة لمن لا يعمل بها، تعد من أوائل المهام التي يتصدى لها اصحاب الكفاءات والمتميزون في الامم والشعوب المتقدمة، فهي وحدها الكفيلة بدفع الدولة والمجتمع الى المراتب العالمية الأولى من التقدم.

ويعتمد هذا الأمر على صناعة الشخصية الفعالة والمتفاعلة في وقت واحد، فمثل هذه الشخصيات لا تكون جامدة على صعيد العمل والتفكير، إنها شخصية منتجة، مفكرة، محللة تستنتج الكثير من الاجوبة من خلال ملاحظة الاشياء والظواهر والعلاقات الاجتماعية، لتصل الى نتائج تعمل على تطوير المجتمع، ولا شك أن التحليل والتفكيك ثم الاستنتاج ظاهرة تتحلى بها المجتمعات المتطورة، أما الخمول والتبسيط واللامبالاة فهي من سمات ومواصفات المجتمعات التي تقبع في أسفل قائمة التقدم، ونقصد بالتحليل أن يتبصّر الانسان الامور التي تمر به وتهم حياته، بشقيها الفكري النظري والمادي، وأن يدقق في الاشياء والمواقف بمنظار دقيق، ومعيار يرجّح كفة الفائدة والنجاح على كفة الخسارة والفشل، وهذه من مزايا الشخصيات الناجحة والمؤثرة في المجتمع، لاسيما النسيج الاجتماعي الواسع.

لذلك ليس أمام الشعوب المتأخرة سوى الاهتمام في بناء الانسان اولا، وهذا هدف غاية في الصعوبة، ولا يمكن أن يتحقق بصورة عشوائية، بل ينبغي أن تكون هناك حملات واسعة مخطط لها مسبقا، مع تهيئة الظروف الملائمة لمثل هذه الغايات السامسة التي تهدف الى ارتقاء المجتمع، ويأتي ذلك من خلال صناعة الشخصية الاجتماعية المتميزة التي تتحلى بمزايا الابداع والابتكار والقدرة على التطور، ومن ثم التأثير في الاخرين، وسحبهم الى منطقة الانتاج والتميز من اجل الارتقاء بالمجتمع والدولة معا.

الحياة معقدة لكنها ممكنة أيضا

الخاملون غالبا من يبحثون عن الذرائع كي لا يتقدموا الى أمام، نعم تنطوي الحياة على الكثير من التعقيد، لكن الذكاء واستخدام الكفاءة بحكمة، يمكن ان تذلل الكثير من مصاعب الحياة وتعقيدها، ينطبق هذا المنظور على حياة الفرد اولا، وطبيعة تعامله مع مفردات الحياة اليومية، لأن الجهد الفردي سوف يساوي بالتراكم حصيلة كلية لجهود المجتمع، ولكن لابد أن يتم تدريب الافراد والمجتمع على التحليل والتبصّر والتفكيك وصولا الى الانتاج الامثل، ولن يتحقق هذا الهدف الكبير بالكلام فقط، انه عبارة عن سلسلة من الاجراءات الفعلية والتخطيط المنظم لبث حالة التبصّر والتفكيك بي افراد المجتمع عموما، وجعل الامر منهج سلوك وطريقة حياة، كما نلاحظ ذلك لدى المجتمعات المتطورة، حيث يهتم الافراد بدقائق الامور ويحققون بالتفاصيل بدقة، وينظرون الى الامور من منظار التحليل الدقيق وصولا الى الاستنتاج الصحيح، وهذا هو النموذج الذي يمكنه الارتقاء بشعبه الى مراتب التقدم المرتجاة.

إن الشخصية المتفاعلة في المجتمع، تبحث في الغالب عن الوسائل السهلة للانسجام مع الاخرين، وتبتعد عن التعقيد، وتكسب العاملين معها في اي مضمار كان، لذلك لا يصح اللجوء الى وضع المصاعب او التناقضات اما العلاقات الاجتماعية والعملية المختلفة، لذا فإن هذا لا يعني أن نذهب الى تعقيد الحياة اليومية بطبيعة الحال، بل ينبغي أن يأتي التحليل من ضمن التلقائية التي يعيشها الانسان، لأنه يجب أن يكون حريصا على فهم المواقف والاحداث والاشياء التي تهم حياته، وينبغي ايضا أن لا ينحو الى التبسيط في كل شيء، لأن هذا النوع من التعامل يؤدي الى الكسل والخمول ويشجع الانسان أن يترك الامور على الغارب، ويبعده عن وضعها في اطارها الصحيح، وهكذا يحتاج الانسان الى التحليل والاستنتاج الصحيح، فهو عماد الشخصية الجيدة في المجتمع.

مهمة المؤسسات التربوية والعلمية

كما تقدم يحتاج المجتمع الى الشخصية المتميزة، والذكية، ويحتاج الى الكفاءة التي تفهم الظواهر وتحلل الشواهد والوقائع وصلا الى الاستنتاج الأفضل والأدق، وطالما أن التحليل والاستنتاج يتعلقان بطبيعة حياة المجتمع ككل، وهما حالة سلوك وتفكير وتبصّر يتم زرعهما في تشكيل الشخصية، فإن التعليم والتربية لهما دور اساس في تحقيق هذا الهدف، بمعنى اوضح هناك دور اساسي يجب أن تقوم بها المدارس والجامعات والحوزات العلمية والمؤسسات والمنظمات الفكرية الاخرى، هذا الدور يتعلق بتعميق منهج التحليل والتفكيك والتبصّر الدقيق لدى الفرد، وصولا الى القرار الصحيح بشأن الحالة او الموقف الذي يؤخذ بشأنه القرار، وأن يتم الابتعاد عن التسرع او الكسل في التعامل مع تفاصيل الحياة اليومية او التعامل مع المواقف ذات الاهمية القصوى، أي اننا بحاجة الى الشخصية الصبورة المحنكة القادرة على دفع المجتمع الى امام خطوة جديدة، من خلال التأثير الايجابي بالآخرين.

وهذه الاهداف تقع ضمن مسؤولية المؤسسات التعليمية والتربوية والدينية، والمنظمات ذات الشأن التثقيفي، اذ لابد أن تمضي نحو التخطيط السليم لزرع حالة او ظاهرة او منهج التحليل والتفكيك لدى الفرد المتعلم او الطالب، ولدى المجتمع عموما، وذلك من خلال اتخاذ الخطوات الاجرائية اللازمة لتحقيق هذا الهدف، علما ان ظاهرة التلقين شائعة في مؤسساتنا التعليمية والتربوية والتدريسية والدينية عموما، حيث يتم تلقين الطالب واعطائه المعلومات من دون اللجوء الى التبصّر والتفكيك والتحليل، وبهذا لا تشترك هذه المؤسسات في صناعة فرد محلل، يفكك الامور بدقة وهدوء ورويّة، بل تنتج انسانا يميل الى التلقين ايضا، لذلك نلاحظ طلاب الجامعات وسواها من المؤسسات التعليمية لا يمتلكون القدرة على التحليل ومعرفة بواطن الامور والاشياء المهمة في حياتهم العملية او غيرها، وهذا يشكل خللا واضحا يؤثر سلبا على بناء الدولة والمجتمع.

لذا لا يصح أن يكون الكادر التعليمي في اي مجال كان، ذا منهج يميل الى التلقين ايضا، فيرسل ويحيل الى طلابه المعلومات والدروس والتربية عموما بطريقة التلقين، وهي حالة او منهج يقتل موهبة التفكيك والاستنتاج الجيد، لدى المتعلمين، الامر الذي يجعل هذه الحالة ظاهرة تنطبق على عموم المجتمع، فيكون مجتمعا لا مباليا، ولا يهتم ببواطن الامور ولا يهمه عمق الاشياء والمواقف، فيكون ذا سلوك تبسيطي يميل الى السذاجة في الغالب، ومثل هذه الشخصيات البسيطة لا تخدم المجتمع ولا تسهم في الارتقاء بالدولة الى الأفضل.

من هنا فإن هذه المؤسسات العلمية والانسانية، ينبغي أن تتصدى لمسؤولية تطوير المجتمع بالسبل كافة، ولابد أن تتحمل الجامعات والحوزات العلمية وعموم المنظمات والمؤسسات التربوية التعليمية، مسؤولية اشاعة منهج التحليل في المجتمع عموما، والحث على الابتعاد عن السهولة في مراجعة المواقف والامور التي تتعلق بحياة الانسان عموما، حتى يكون الانسان في مجتمعنا متفحصا مدققا متبصرا، يتعامل مع الاشياء والمواقف وتفاصيل الحياة كافة بتلقائية وعفوية ولكن بحضور الذكاء والتحليل والاستنتاج السليم، وهذه هي الشخصية الايجابية المتفاعلة التي يمكنها الاسهام في تطوير المجتمع بصورة تصاعدية.

اضف تعليق