ربما تعد ميزانية سنة 2016 من أخطر الموازنات المالية العراقية، على الأقل في غضون السنوات العشر الماضية، ومصدر الخطر والتعقيد يتأتى من المستجدات التي حصلت على اسعار النفط منذ مطلع العام الحالي تقريبا، والهبوط السريع لهذه السلعة التي تعد المصدر الرئيس لإيرادات عدد من الدول العربية، من بينها العراق الذي يعتمد بصورة كليّة على النفط لتحقيق موارد تديم نشاطاته الاقتصادية والحياتية، وتتحكم بوجوده أيضا!.
وقديما قيل (الفلس الأبيض يفيدك في اليوم الأسود)، ولكن السياسيين بلغوا من اللامبالاة والأنانية مبلغا جعلهم لا يعترفون بهذا القول او المثل الشعبي الدارج، فعندما تجاوزت مبالغ الميزانيات المالية للسنوات الماضية، سقف الـ 100 مليار دور و130 مليار وربما وصلت الى 140 مليار دولارا، لم يبادر احد او مجموعة من السياسيين العراقيين الى استثمار هذه الوفرة المالية الكبيرة في مشاريع كبرى تؤمّن مصادر إضافية للموارد.
وربما لم يخطر في بال احد من السياسيين أن هبوطا (كالذي حدث) في اسعار النفط، قد يحدث بصورة فعلية في اسواق النفط العالمية، ولكن هذا ما جرى في الواقع، حيث هبط سعر برميل النفط بصورة مفاجئة الى اقل من 40 دولارا، الأمر الذي وضع الدول النفطية وحكوماتها في وضع لا تُحسد عليه، فواجهت مشكلات مالية اقتصادية حقيقية، لاسيما ان العراق يتعرض لحرب ارهابية (من تنظيم داعش) تستنزف موارده بصورة كبيرة، بالاضافة الى العدد الهائل للموظفين والمبلغ الكبير لرواتبهم حيث البطالة المقنّعة تفتك بأجهزة الادارية والخدمية للدولة.
ومن مؤشرات عدم اهتمام الطبقة السياسية بمضاعفة موارد العراق، أنها لم تفكر باستثمار المبالغ المليارية الهائلة في (سنوات الخير)، ولم تفكر أن أياما وسنوات عجاف قد تضرب العالم ودول النفط ومنها العراق، ولو كان هناك بعد نظر وحرص للطبقة السياسية على الشعب والدول وحاضر ومستقبل الأجيال، لكانت قد استغلت الوفرة المالية في انشاء مشاريع اقتصادية انتاجية تضاعف من موارد الدولة، وتنقلها من خانة الدول الريعية وحيدة المورد، الى الدول الانتاجية متعددة الموارد.
ولكن ما حدث في الواقع، هو انشغال الطبقة السياسية ومن يدخل تحت عباءتها من كتل واحزاب وشخصيات سياسية في بناء نفسها، وتأمين مصالحها ومواردها هي وليس الدولة او الشعب، وهذا ما جعل العراق اليوم يعاني من الهبوط الحاد من اسعار النفط، أما لو كانت العقول الاقتصادية والحكومية العراقية تخطط بصورة مسؤولة وسليمة، وتحسب حسابها لمثل هذا اليوم، لكان العراق اليوم في منأى عن أي خطر مادي أو اقتصادي.
كيف ننهض مرة أخرى
الفشل ليس نهاية العالم، بل علمتنا التجارب على الصعيدين الفردي والجمعي، أن الفشل هو (المضاد الحيوي) الذي يعالج الأخطاء وصولا الى النجاح، من هذا المنطلق، علينا أن لا نتخذ من أسباب وحالات الفشل السياسي والاقتصادي في السنوات الماضية، كذريعة لمواصلة (الفشل)، فندب الماضي لا يحقق الفائدة المرجوة للدولة والشعب، والبكاء أو الندم حد اليأس لا يخرج بنتائج عملية مفيدة، فما هو المطلوب اذن.
أولا ينبغي أن نستفيد من تجارب الآخرين، خبراء او دول صديقة، في مجال إعداد وتنظيم الميزانية المالية السنوية للدولة، وهذا أمر ممكن، من خلال تحديد المصادر والدول التي يمكن أن نستفيد منها بصورة فعلية في هذا المجال، فضلا عن الكفاءات العراقية والاعتماد عليها في معالجة الاخطاء وتأشير المشكلات مسبقا.
مثال ذلك، ونحن نعد العدة لتمرير موازنة 2016 والتصويت عليها، ينبغي أن لا نقع في اخطاء سبق أن وقعنا فيها وأحرجتنا، بل وعرّضت الدولة واجهزتها والشعب الى مشكلات اقتصادية ومالية، فعندما يضع المشرعون (اعضاء مجلس النواب) مبلغا مقدره (45) دولارا امريكيا للبرميل الواحد من النفط، كأساس يتم الاعتماد عليه في تقدير حجم الموازنة، فهذا التخمين غير واقعي ولا مضمون أصلا، على الرغم من التأكيد الذي ورد من وزير النفط العراقي نفسه، بأن مبلغ (45 دولارا) للبرميل الواحد يتماشى مع الواقع، ولكن كيف اطمأن السيد الوزير الى ثبات هذا السعر في ظل التذبذب المتواصل هبوطا او صعودا طفيفا في اسعار النفط.
إن وزير النفط يقول حرفيا (بأن الخبراء وشركات النفط ابلغتنا بأن سعر النفط في العام القادم سوف يرتفع تدريجيا)، ولكن هذه التوقعات لا ضمان لها، وقد تنعكس الحالة وتهبط الاسعار الى مستويات أدنى، وفي هذه الحالة سوف تعاني الميزانية من صدع كبير، الامر الذي يجعل الحكومة والشعب في حيرة من امرهما، لذلك من الافضل أن يتم تنظيم الموازنة واحتساب قيمتها على اساس أن سعر برميل النفط (40 دولارا) كما طالبت بذلك احدى النائبات.
كذلك اعلنت وزارة النفط بأنها تستطيع تأمين تصدير (3.600.000 ) ثلاثة ملايين وستمائة ألف برميل يوميا، على اساس أن الاقليم يقوم بتصدير (550.000) خمسمائة وخمسين ألف برميل منها، والحقيقة أن هذا القول لا ضمان له، وقد حدثت مشكلات دائمة بخصوص تصدير الاقليم الكردي للنفط، حيث الاتهامات المتبادلة بين حكومة الاقليم والحكومة الاتحادية حول هذا الأمر، لذلك لا يمكن اعتماد هذا السقف الانتاجي والأفضل أن تُحتَسب قيمة الميزانية على اساس تصدير (3.000.000) ثلاثة ملايين برميل في اليوم، حتى لا تكون هناك مشكلات مفاجئة في هذا المجال.
حلول تلوح في الأفق
من الأفضل أن يتنبّه المشرعون، ممثلو الشعب، نواب البرلمان، الى أخطاء الماضي، وينبغي دراستها بصورة مستفيضة، حتى يمكن أن توضع الحلول المطلوبة والصحيحة لتلك الاخطاء، اذ من غير الصحيح أن يقع المشرعون بها مرة اخرى، فضلا عن الجانب التنفيذي، أي على الحكومة ان تسقط في الفخ نفسه، وعليها العبور بالشعب الى ضفة الامان، ووضع المعالجات المناسبة للمشكلات التي فرضتها الاسعار المتدنية للنفط.
ومن بين الحلول المهمة في هذا الجانب، تقليل الإنفاق الحكومي بنسبة كبيرة، والمعني بهذا إيقاف الهدر المالي الكبير الذي يتعرض له المال العام، وخاصة ما يتعلق بكثرة وظائف الدرجات الخاصة، او الوزراء والحمايات، وما شابه ذلك من مصاريف قد تبدو اعتيادية في زمن الموازنات المليارية، ولكننا اليوم دولة تعاني من شحة كبيرة في الموارد، واذا اردنا القفز بسلام على الظروف الراهنة العصيبة، ليس امام المسؤولين والمعنيين إلا اتخاذ الاجراءات العملية الصحيحة التي تصب في مسار تخفيض الإنفاق الحكومي الى ادتى حد.
مع أهمية التركيز على الجانب العسكري والأمني، وحتمية عدم المس بالتخصيصات التي تتعلق بحفظ حدود الدولة وتطهير الاراضي المحتلة من تنظيمات الارهاب (الدواعش)، فهذا البند وإن دخل في اطار الإنفاق الحكومي، إلا ان توفير الغطاء المالي التام لعمليات دحر داعش من لدن القوات العراقية بكل تشكيلاتها والحشد الشعب، أمر لا نقاش حوله مطلقا، أما الجوانب الاخرى من الانفاق الحكومي، فليس هناك مناص من قراءتها بصورة مستفيضة، وتقليلها الى ادنى حد ممكن، بما يجعل الدولة اكثر قدرة على ادارة شؤون الدولة.
ولا ننسى الأموال التي يتم رصدها للجوانب المهمة مثل (تخصيصات البطاقة التموينية، ورواتب الرعاية الاجتماعية والمتقاعدين، فهذه القطاعات الفقيرة خط احمر تعادل أهمية عدم المساس بأموال القوات الامنية، في حين يمكن تقليص الاموال في الرواتب العالية، وخاصة ما يتعلق بالمخصصات، كما ينبغي تحديد عمليات الاستثمار والتركيز على ما هو حيوي ويخدم الشعب بصورة حتمية.
اضف تعليق