شاعت بيننا اليوم مدارس الكرفانات الطارئة على التعليم، فهي عبارة عن صناديق مغلقة ما أن يدخلها الطالب حتى ينغلق مخّه عن استقبال اية معلومة كانت، وسرعان ما تُزرع الكآبة في نفوس الطلاب، وتجعله يشعرون بهدر كرامتهم وعدم احترام شخصياتهم، ولا تزال هناك مدارس مبنية من الطين، فتعكس نفس مشاعر المهانة على الطلبة...

في ستينيات القرن الماذي، حين دخلتُ إلى مدرستي الابتدائية في الصف الأول، وكان أسمها (مدرسة الخزرجية الابتدائية)، كانت تشبه إلى حد بعيد المدارس النموذجية التي يتم إنشاءها لما يُسمّى بالطلبة المتفوقين أو المتميزين، فمن حيث المبنى كانت الصفوف نظيفة جدا، ومقاعد التدريس مصنوعة من الخشب اللامع، وتصميم المقعد يوفر للطالب حالة الرضا النفسي وكأنه يجلس في بيته الآمن السعيد.

أما الأجواء الأخرى في الصف فهي جميعا تشارك في صنع الاستقرار والأمن النفسي لجميع الطلاب، فقماش ستائر الشبابيك زاهية، ولوحات وسائل الإيضاح مشرقة بتفاصيلها وصورها العلمية الآسرة، حتى السبورة كما أتذكر كان لونها أخضر يسرّ القلب ويشيع في النفس نوع من الرضا العميق، فترى الأطفال في حالة من السعادة والاستقرار.

وعندما يدقّ جرس نهاية الدرس ونخرج في فرصة خمس دقائق، فإنك تكاد تدخل في مكان نموذجي من ناحية النظافة أولا، ومن ناحية السِعة، كما أنك سرعان ما تجد نفسك أمام ساحات ألعاب كرة السلة والطائرة وحتى كرة القدم، وفي جوارها حدائق المدرسة التي تشبه خميلة رائعة مُعتنى بها من قبل بستاني متخصص، فتظهر للطلاب في حلة زاهية تشترك برسم وترسيخ حالة الزهو والسكينة والرضا عند معظم أو جميع الطلاب.

الجمال الهندسي للمدرسة

أما عندما يدق جرس نهاية الدرس الأخير وتخرج من المدرسة، فإنك تحتوي بناظريك هيكلها وشكلها الخارجي، وتقف مذهولا أمام هذا المشيَّد الصارخ بالجمال الهندسي المريح الذي يدعم داخل المدرسة، فيتّحد الشكل الخارجي الجميل، مع الداخل المكتمِل، لتتحقَّق لوحة بناية أليفة تسرّ القلب والنفس والنظر، السؤال هنا لماذا غابت هذه الصفات والمواصفات والاهتمامات؟

بين هذه الصورة الماضوية المستلّة من بطون الأمس، وصورة المدرسة الحاضرة، هناك فارق لا حدود له، ليس من حيث الشكل للبناية المدرسة، ولا يتعلّق الأمر بدواخلها فقط، بل مجمل ما يسمى بالمدرسة في الحاضر يكاد يكون لا علاقة له بالتعليم الصحيح.

فالمدرسة أساس مسمّى التعليم، ويجب ان تكون أسم على مسمى، ومعظمنا يعرف إن لكل مسمّى من اسمه نصيب، وعندما نطلق على هذه البناية أو تلك اسم المدرسة، هذا يعني إنها يجب أن تحمل شيئا من هذا المسمّى، ولكن في مسح ميداني حالي لا يحتاج إلى كثير من الدقة، سوف نكتشف بسرعة أن الفارق بين المسمّى والاسم كبير جدا، لدرجة أن المدرسة اليوم تكاد تكون مصدرا للإهمال والكسل، هل يمكن إثبات ذلك، وماهي التداعيات المحتملة؟

نعم شاعت بيننا اليوم مدارس الكرفانات الطارئة على التعليم، فهي عبارة عن صناديق مغلقة ما أن يدخلها الطالب حتى ينغلق مخّه عن استقبال اية معلومة كانت، وسرعان ما تُزرع الكآبة في نفوس الطلاب، وتجعله يشعرون بهدر كرامتهم وعدم احترام شخصياتهم، ولا تزال هناك مدارس مبنية من الطين، فتعكس نفس مشاعر المهانة على الطلبة الذين ينتمون إلى بلد ميزانيته السنوية تفوق مئة مليار دولار!

التعليم بين الأمس واليوم

ما هي الأسباب التي تقف وراء هذا المشهد المهين للتعليم، وهل كان العراق بالأمس أغنى من اليوم، أم أن الذين يحكمونه ويديرونه أفضل من مسؤولي اليوم، مع أن معظم الأنظمة كانت فردية عسكرية ديكتاتورية تتسم بالاستبداد والجهل؟

إننا هنا نضع إصبعنا على الجرح، فيزداد الألم، وتنجلي الحقيقة بأقسى صورها، وتعلو الأصوات المتسائلة، ما الذي يجري للتعليم، وهل أننا ننظر بسوداوية له، أم هو جزء من الحالة العامة للبلد، جزء من الفوضى العارمة التي تضربه، وهل يجوز أن نتعكز على الأعذار التي أكل عليها الدهر وشرب، مثل تأثير الإرهاب ودول الجوار والفساد.

ألم تحًنْ الفرصة لكي نطابق بين مدرسة الماضي والحاضر، أليس من المعيب أن نتراجع إلى الخلف (عكس الدول والمجتمعات) ونتخذ من مدرسة الأمس نموذجا لمدرسة الحاضر، هذه كلها أسئلة يجب أن يجيب عنها المسؤولون في الحكومة وفي التعليم وفي جميع المؤسسات التي ترتبط بعلاقة ما مع التعليم.

الخلاصة نحن ندلي برأينا في هذا الموضوع الحيوي الذي يخلصنا من الجهل، وبالتالي يعتق رقابنا من الاستبداد، وعندما نطلق هذا الرأي فإن الأساس هو الشعور بمسؤولية الكلمة حيال ما يجري للتعليم في العراق، ولو أننا خُضنا في التعليم الأهلي فإن المصيبة ستكون أكبر وأشدّ إيلاما لنا، إنها في الختام، دعوة لمواجهة الانحدار التعليمي كونه الأساس في تقدم البلدان والأمم، والله من وراء القصد.

اضف تعليق