(صخرة عبعوب)، جملة استثنائية وشهيرة تناقلها أهالي بغداد في شتاء ماضي، لتنتشر في عموم العراق، في تعبير ساخر وناقم، على أوجه الفساد التي باتت تستفحل يوما بعد آخر في الدوائر الخدمية الحكومية، لاسيما المسؤولة عن الخدمات البلدية منها، فقد كان الشعب العراقي يتوقع من حكومته الاستفادة من أخطاء الماضي، وإصلاح منظومة العمل والادارة، ومعالجة الفساد البلدي في بغداد خصوصا كونها العاصمة.
مع أهمية وحتمية الاستعداد لموسم الشتاء بصورة تتناسب مع مليارات الدولارات التي تم تخصيصها في السنوات الماضية، وتم صرفها على مشاريع تصريف المياه في بغداد، لكن الذي حدث خلال يومين فقط، أن مدينة كبيرة متشعبة واسعة كثيرة الاحياء اسمها بغداد، تغرق بمياه الأمطار بمجرد ان أفاضت السماء بخيراتها على الأرض.
لتدخل المياه الى بيوت المواطنين الآمنين، وكأن المسؤولين لا يكتفون بالتهديدات الارهابية والمفخخات والانفجارات التي تقض مضاجع المواطنين ليلا ونهارا، وهذه المرة تأتي موجة الأمطار لتميط اللثام عن وجوه الفاسدين في أمانة بغداد وبعض الحكوميين المسؤولين عن مهمة تصريف المياه، لتؤكد أن المليارات التي تم تخصيصها لصرف مياه الأمطار ذهبت الى جيوب الفاسدين حتما.
وقد أنحى المتحدث باسم (أمانة العاصمة) باللائمة على السماء!! في قضية غرق أحياء واسعة وعديدة من بغداد، وقال بالحرف الواحد، ان السماء أمطرت بكميات (تفوق طاقة شبكة تصريف المياه)، مما تسبب ذلك في بقاء المياه في الشوارع، لتدخل البيوت وتضاعف من معاناة المواطنين الكبيرة والمريرة أصلا.
أما اذا تحدثنا عن أوضاع النازحين، فإن الأمر سيبدو أكثر من كارثة انسانية، فإذا كانت مياه الأمطار تهاجم بيوت المواطنين المبنية من الآجر والمواد الانشائية المتينة وتدخلها وتحيلها الى احواض او مسابح مجانية، فما بالك اذا كان البيت عبارة عن خيمة مهلهلة منصوبة على الأرض العراء او على قارعة الطريق، او في ساحات جرداء، من دون أية اجراءات تحد من مخاطر المياه الجارفة او غيرها، إن الوضع هنا سوف يزداد خطورة وظلما بطبيعة الحال، وهو ما حدث فعلا بخصوص خلق مصاعب جديدة وخطيرة ضاعفت من مصاعب النازحين التي هي اصلا لا تعد ولا تحصى.
المرجعية تدعو لإنقاذ النازحين
لذلك دعت المرجعية الدينية في خطبة الجمعة ليوم أمس، الى الوقوف بجانب النازحين، وطالبت المواطنين أن يهبوا لمعاونة النازحين وأطفالهم ونسائهم من اجل مواجهة ما تسببت به مياه الأمطار لهم، كذلك دعت الحكومة الى القيام بواجبها، ولكن يبدو أن رؤوس الفساد لا تريد ولا تفكر بأن تضع حدا لفسادها، خاصة أن الحساب والمقاضاة الفعلية لم تطل أيا من هذه الرؤوس على الرغم من حملة الاصلاح التي قادتها المرجعية منذ شهور.
لقد أكد نائب في البرلمان في حوار اذاعي بثته (اذاعة بغداد) ضمن برنامج (المشهد السياسي)، على أن العقوبات القضائية التي تم اتخاذها فعليا، لم تسهم بالحد من الفساد، ولم تردع الفاسدين والمفسدين، والسبب يكمن في قضية التنفيذ، بمعنى أن هناك قرارات وعقوبات قضائية بالسجن والتغريم وسواها من العقوبات، قد صدرت بحق بعض الفاسدين فعلا، ولكن الجهة التنفيذية لم تقم بدورها، ولم تلقي القبض على المحكومين بتلك العقوبات، بحسب قول النائب المذكور، وهو أمر وارد تماما بدليل استمرار تدهور الاوضاع الخدمية والادارية وسواها.
وهذا يجعل من صدور العقوبة وعدم صدورها سيان، بمعنى طالما أن قرارات القضاء والمحاكم المختصة ومفوضية النزاهة بحق الفاسدين لا يتم تطبيقها فعليا، فكأنها غير صادرة أصلا، أي ان قيمة مفعولها تساوي صفرا على الشمال!، الأمر الذي يترك الفساد على حاله، وكأن الدولة والحكومة والجهات المعنية عاجزة تماما عن إيجاد الحلول الناجعة فيما يتعلق بمكافحة الفساد والقائمين به وعليه.
لذلك عندما تغرق مدينة بغداد، وتغطي مياه الامطار ساحاتها وشوارعها، وتغرق العديد من الاحياء السكنية فيها، وتدخل المياه الى بيوت المواطنين، ولا تكتفي بذلك، بل تطارد آلاف النازحين في مجمعاتهم السكنية الضعيفة والرديئة أصلا، فليس هناك غرابة في هذا الأمر، وقديما قيل اذا عُرف السبب بطل العجب، فلا يدعو غرق مدينة بغداد الى الاستغراب اصلا، طالما أن الفساد مطلق اليدين، لا أحد يقف في وجهه، ولا قانون يردعه، ولا جهة تنفيذية تقوم بدورها وتطبق القرارات القضائية بحق الفاسدين.
وهو أمر ليس جديدا على العراقيين، فهناك مسؤولين كبارا، سرقوا مليارات الدولارات وهربوا بها الى بلدانهم الثانية، فهؤلاء لديهم جنسيات من بلدان اوربية او غربية تقوم بحمايتهم بصفتهم مواطنين أوربيين، وهكذا يسرق الوزير او المسؤول (مزدوج الجنسية) مليارات او ملايين الدولارات ويهربها ويهرب معها الى دولته الاخرى، واذا كان القضاء العراقي عاجزا عن تنفيذ الاحكام الصادرة بحق الفاسدين في داخل العراق، فما بالك عندما يكون الفاسد والمختلس والمتجاوز على المال العام خارج العراق، ومحميا في دولة اخرى قانونيا.
من أسباب غرق بغداد
مثل هذه الأسباب، التي تتعلق بعدم تنفيذ الاحكام القضائية، أسهمت في غرق بغداد وساحاتها وشوارعها والعديد من أحيائها السكنية، وفاقمت من ظاهرة الفساد، وضاعفت من أعداد الفاسدين، لدرجة أن كثيرا من المتابعين والمختصين، يتحدثون عن أرقام مالية كبيرة، تم اهدارها او سرقتها في صفقات وهمية، او فعلية لكنها مع شركات فاشلة او غير متخصصة، مقابل تخصيص نسبة عالية من مبلغ الصفقة لمسؤولين فاسدين.
وهكذا غرقت بغداد، وعدد آخر من المحافظات العراقية، وسوف تغرق في كل شتاء، وتؤول آلاف من بيوتها الى السقوط، ولن نستغرب مشاهدة العراقيين نائمين بأعداد مضاعفة في العراء، بسبب زلزال الفساد الذي هدّم بيوتهم، ونشر الموت في شوارعهم وساحاتهم وأزقتهم الصغيرة.
ولكي لا تبقى الصورة مظلمة والأمل مفقودا، لابد أن هناك حلولا متاحة تلوح في الأفق، هذا اذا أراد أصحاب القرار حلا للاوضاع البائسة التي يعيشها العراقيون.
إن الفساد كما هو معروف ينتشر كما الاخطبوط في المؤسسات الحكومية العراقية كافة، وليس البلدية منها فحسب، ولكن طالما يتعلق موضوعنا بمياه الامطار، فإن الحلول تكمن في الاستعانة بشركات عالمية لها باع في مجال الصرف الصحي وتصريف مياه الأمطار، وقد تقف قضية الأموال وتمويل مثل هذه المشاريع الضخمة عقبة في هذا الطريق.
هنا ينبغي أن تجد المؤسسات المالية والوزارات المعنية، والبنك المركزي، حلولا لهذه المشكلة، كأسلوب الاستثمار بالآجل، وهو أسلوب تسديد معمول به عالميا ضمن شروط ضامنة، وقبل هذا وذاك، اذا لم توجد الإرادة السياسية والاقتصادية والتخطيطية الوطنية، الصادقة والمؤمنة وذات التخصص والكفاءة اللازمة، لمعالجة مشاريع صرف المياه، وغيرها من المشاريع الخدمية، فإن مسلسل الفساد سوف يستمر، وفي المقابل يمضي هذا البلد نحو حافة الانهيار يوما بعد يوم.
لذلك ينبغي أن يتحمل الجميع مسؤولياتهم بصدق وأمانة، كما نلاحظ ذلك في ما تقوم به المرجعية الدينية من ادوار مهمة في متابعة ومراقبة الاحداث في المجالات كافة، لدرجة أن الشارع العراقي بات يتابع بدقة ملاحظات المرجعية على الاداء الحكومي، وعلى الحلول المطروحة للأزمات الطارئة، مثل أزمة (غرق بغداد والمحافظات)، وبات الشعب يستمد منها الأمل في تحقيق الاصلاح، الذي يسعى أرباب الفاسد الى عرقلته بكل يمتلكون من قوة.
اضف تعليق