هل يستطيع الصبي أن يعرف نفسه من الداخل، أنْ يقيّم نفسه، هل يعرف إذا كان موهوبا أو مختلفا عن أقرانه الآخرين؟، في ذلك الوقت، نعم كنتُ أشعر بذلك، كان هناك شعور لا أعرفه بالضبط، يتحرك في أعماقي، كان له صوت ملحّ يقول لي أنت صبي مختلف، أنت صبي جاد، لكنك حالم...
هل يستطيع الصبي أن يعرف نفسه من الداخل، أنْ يقيّم نفسه، هل يعرف إذا كان موهوبا أو مختلفا عن أقرانه الآخرين؟، في ذلك الوقت، نعم كنتُ أشعر بذلك، كان هناك شعور لا أعرفه بالضبط، يتحرك في أعماقي، كان له صوت ملحّ يقول لي أنت صبي مختلف، أنت صبي جاد، لكنك حالم، ومعظم ما تحلم به يكاد يكون مستحيلا، مع ما أنت عليه وفيه، فأنت أولا فقير الحال، ملابسك رثّة وغالبا ما ترتدي بطلون أبيك وسترته حتى تذهب للمدرسة، أما الحذاء فتلك حكاية أخرى، والمصروف اليومي يكاد يكون معدوما، فكيف تريد أن تكون معروفا ومختلفا عن أقرانك... هكذا كنتُ أسألي بصوت عال.. ولا جواب....
في أحد أيام ذلك الوقت المبكر من تفتّح الخيال والقريحة والرغبة في أن أكون شيئا، عزلتُ نفسي في غرفة بلا ضوء، الغرفة الخلفية من بيتنا الخالي من الضوء، فلا كهرباء، ولا نافذة تدخل منها الشمس، إنه بيت فقراء، كنتُ منكمشا على نفسي، وفي يدي قلم وفي الأخرى ورقة، انتظرت أن يهبط الوحي الشعري عليَّ، أغمضتُ عينيَّ، تأملتُ وجهَ قبيلة، تذكرتُ احترامها لي ومفردة (سيد) التي تسبق بها اسمي حين تناديني، وفي نفس الوقت تلمّستُ بطني، مشتْ أناملي فوق ذلك الجلد الخفيف الفاصل بين أصابعي والديدان التي تتحرك في معدتي وأمعائي، هذه الديدان تمنع وصول الوحي الشعري إلى رأسي، فألوذ بقبيلة، أتذكر وجهها السمح، كلماتها الرقيقة، نفحات الاحترام التي تنعشني بها، حينئذ تهدأ الديدان، كأنها تستغرب أو تخشى احترام قبيلة لي، وشيئا فشيئا يدنو مني ما يُقال له وحي الشعر....
بدأت أخطّ الحروف بهدوء عجيب على الورقة، حرفا وراء حرف، في نيّتي أكتبُ بيتا شعريا واحدا لا غير، وبمساعدة قبيلة ووجهها وأريج احترامها لي، تمكنتُ من كتابة ذلك البيت الشعري الأول في حياتي، كنتُ في الثانية عشرة من عمري أو أكثر قليلا، أتذكر اصابعي الباردة وهي تمسك بالقلم، وأتذكر تلك الرجفة التي دهمت كفّي، ومع ذلك أنجزتُ كتابة البيت الشعري الأول (وهو في الحقيقة ليس بشعر)..
أعرف أنه لم يحزْ على الوزن الصحيح ولا حتى على المعنى، لأنني لا زلتُ صغيرا على معرفة بحور الفراهيدي، المهم غامرتُ وكتبتُ الشعر على أية حال، وخرجتُ من الظلام، وحملت الورقة التي ضمّت بيت الشعر كأنه دليل الفوز الأبدي لي...
سيول من الفرح أغرقتني، ركضتُ بالورقة إلى أخي الأكبر عبد الرزاق، وأخبرته بلهفة من يريد أن يصبح شاعرا قبل الأوان، قلت له متلعثما: لقد كتبتُ هذا البيت الشعري....
أخذ مني الورقة، وسألني قبل أن يقرأها، هل أنت كتبت هذا البيت؟، قلتُ نعم...
تركني مصلوبا أمامه كالتمثال، كان الشيء الوحيد الذي يتحرك في جسمي هو قلبي، حتى أكاد ألمس نبضي لمسا وليس سمعا، قرأ عبد الرزاق الورقة، كانت عينايّ مسمّرتين في وجههِ بلا رمشة ولا حركة، وحين رفع رأسه من الورقة، تبسّم بغرابة وقال هل أنت من كتب هذا؟
كنتُ لم أعرف بعد رأيه، وهل ما كتبته شعرا أم لا، وهل هو جيد ومقبول أم لا، كنتُ خائفا حقا، لكنه لم يتأخر كثيرا، فقد قال لي بنبرة واضحة، اذهب فأنت شاعر من الآن....
في هذه اللحظة سطع في بالي وجه قبيلة، لم أعد أرَ ما حولي، بل لم أرَ حتى نفسي، مع أنني لم أكتب البيت لها، لا أعرف لماذا تذكرتها، لكنني إلى الآن أتذكّر فرحتي العارمة التي أعقبت تشجيع عبد الرزاق لي، وسوف يكون لرأيه هذا دورا هائلا في دخولي إلى مملكة الحرف والكلمة والأدب والكتابة بكل أشكالها...
دخلتُ إلى بيت عمّتي ظهرا، قبيلة هي التي فتحت لي باب الدار، وقبل أن أسلّم عليها، قالت (أهلا سيد علي)....
دخلتُ البيت وكانت الورقة ترتجف بين أصابعي، بل أتذكر أنها سقطت مني وأخذها الهواء نحو الحديقة، فركضت إليها قبيلة وأعادتها لي، وقالت (كادت أن تبتلّ بالماء) ثم أضافت (هل كتبت فيها واجبك المدرسي)، تلعثمتُ وأنا أنظر في وجهها، نسيت الورقة، ونسيت ما كتبته، الخجل أحاطني وتوغّل في أعماقي، أعادت سؤالها لي، فقلتُ لها: (كتبتُ بيتًا من الشعر)، صمتتْ قبيلة، ولم تواصل الكلام، فتصوّرتُ أنها لا تفهم في الشعر، أو أنها لا تحبه، لكنها بعد دقائق فاجأتني بكتابين، حملتهما لي من مكتبة صغيرة في الزاوية، الكتاب الأول ديوان شعر لنزار قباني، والثاني رواية من روايات المقاومة الفلسطينية..
سلّمتني الكتابين ثم قالت: سيد علي في فراغك اقرأ هذين الكتابين.
أخذتُ الكتابين وخرجتُ من بيت عمّتي، لم تقرأ قبيلة بيت الشعر الذي كتبته، هي لم تطلب مني ذلك، وأنا لم أطلب منها أن تقرأه، الحقيقة أنا نسيت أن أطلب منها ذلك، أو بالأحرى خجلت منها، توجهتُ إلى بيتنا في حي رمضان..
الطريق كان ترابيا، خاليا إلا من علامات الفقر، سيارات قديمة متهالكة، وعربات تجرها الحمير، وأجساد يلوكها الفقر بلا رحمة، حتى الأشجار كانت شاحبة، وكلما تقرّبت من حي رمضان، كانت صحراء الفقر تزداد اتساعا،، بدأت ديدان البطن تتحرك بشراسة في أمعائي، حدث هذا باللحظة التي خرجتُ فيها من بيت عمّتي، أحسستُ بأنني جائع، تلمستُ بطني، كانت الديدان تلبط كأنها أسماك في نهر، وأخذت تتعارك فيما بينها داخل أمعائي، إنها جائعة، أنا أعرف ذلك جيدا، وأدري ما الذي يوقف عراكها، إنها تنتظر متى أتناول وجبة الطعام حتى تنقضّ عليها...
قطعتُ نصف المسافة إلى بيتنا، كنتُ ممسكا بالكتابين اللذين أعطتهما لي قبيلة، قرأتُ كلمات قليلة من قصيدة كانت مطبوعة في ظهر غلاف الديوان القباني، ثم حاولت أن أقارن بين بيتي الشعري الأول الذي شجعني عليه أخي عبد الرزاق، وبين أبيات القباني، وعرفت من لحظتها، أن الشعر فضاء واسع لا يمكن أن تحلّق فيه الطيور الصغيرة....
وصلتُ بيتنا، ودخلتُ في الكهف المظلم، هكذا كنتُ أسميه، وهكذا كنتُ أشعر به، فلا توجد مصابيح لأن الكهرباء لم تصل بعد للحي الذي نسكن، ولا توجد نوافذ في الغرفة الخلفية التي أختلي فيها بنفسي، اختي الكبيرة زهرة هي التي فتحت لي الباب، لم ألاحظ وجود أمي ولا أبي، ولا حتى أخوتي الصغار، لم أسأل عن هذا الصمت المريب ولا عن غياب أفراد العائلة.
دخلتُ الصومعة الخلفية، ورحتُ أفكر بما يجول في داخلي، بأحلامي العسيرة، بالسر العميق الغامض الذي يربض في داخلي، ويدفع بي كي أكون مختلفا أو متميزا، ثم مع الوقت بدأ يخطر في بالي هدف فرض نفسه فرضا عليَّ، أريد أن أحوز على إعجاب قبيلة، يجب أن أنجح وأكون الأول، يجب أن أعمل في بيع مثلّجات (الأسكيمو)، أو بيع الخبز فجرا في أزقة المدينة، ثم يجب أن أكتب الشعر، أو أخوض في الفنون أو في الرياضة، أريد أن أكون شيئا مختلفا، الأمر ليس بيدي، هناك دافع في داخلي يدفعني كي أتميّز.
يُقال توجد أشياء تفرض نفسها فرضا عليك، ولا يمكنك التخلص منها، نعم أنا من عائلة فقيرة، أبي فلاح وأمي ربة بيت، أميّة لا تقرأ ولا تكتب، هذا هو واقع العائلة، ولكن هذا لن يكون عائقا أمامي، فما في داخلي أقوى من أي عائق، هكذا كنتُ أشعر مع نفسي، وكانت درجاتي العالية في الدروس دليلي على ذلك، وتعلقّي الكبير بالقراءة.
كنتُ مستغرقا في هذا العالم، ممسكا بشعر القباني والرواية بين يديّ، والحقيقة لا أعرف أين أصبحت الورقة التي كتبت فيها بيت الشعر الوحيد، في غمرة هذه الدوامة رأيت أختي الكبيرة زهرة تجلس في (الهول/ غرفة الجلوس) وحيدة، مهمومة، منطوية على نفسها، أوجعتني طريقة جلوسها، نهضتُ إليها، جلست بجوارها، لم تنظر ناحيتي، لم تنبس بكلمة، مسكتُ كفّها برفق، وسألتها أين العائلة؟
رأيت دمعة تسقط من زاوية عينها القريبة مني، سالت الدمعة الكثيفة كأنها مجرى نهر على أرض ملساء، لم يتوقف دمعها، حاولت أن أقبّل ظاهر كفها، لكنها سحبت يدها وانكمشت أكثر على نفسها، وخرجت من فمها كلمات مقهورة ناقمة: (لقد تعاركوا من جديد)....
حينها عرفت أننا كعائلة فقيرة، بدأنا نسحق بعضنا بعضا من جديد، فقضية الزواج الثاني لا تزال حاضرة في رأس أبي، وحتما أنها تأججت من جديد، وأظن حتى هروبي خارج البيت لم يعد كافيا لإطفاء هذه المعركة، أو طرد هذا الحلم من رأس أبي.. لا أدري ما الذي أفعله غير الهرب من البيت مجدّدا...
كنت أحس بجوع رهيب، والديدان تتقاتل من الجوع في أمعائي... أمسكتُ بالكتابين بقوة، وبدأتُ أضغط بهما على أمعائي، هدأت الديدان، خفت صراعها، أو تناسيته أنا، ودخلت في بوابة الحلم مجددا، ها أنني أحلم أن أكون مختلفا، شاعرا، فنانا، إنسانا، لا يعاني من ألم الديدان في أمعائه.
اضف تعليق