q
مثلما ينقسم الواقع البشري إلى قسمين، واقع فاضل، وآخر نقيض له وهو واقع فاسد، ومثلما توجد في الأدبيات والتأملات والتطلعات مدينة فاضلة، فإن هناك أدب المدينة الفاسدة الذي يناقض ويقابل أدب المدينة الفاضلة حيث انشغل الفلاسفة منذ الأزمنة الأولى واستمروا في هذا النوع من الفلسفة والكتابات إلى يومنا هذا...

مثلما ينقسم الواقع البشري إلى قسمين، واقع فاضل، وآخر نقيض له وهو واقع فاسد، ومثلما توجد في الأدبيات والتأملات والتطلعات مدينة فاضلة، فإن هناك أدب المدينة الفاسدة الذي يناقض ويقابل أدب المدينة الفاضلة حيث انشغل الفلاسفة منذ الأزمنة الأولى واستمروا في هذا النوع من الفلسفة والكتابات إلى يومنا هذا.

فإذا كانت هناك روايات وأعمال أدبية تحاكي أحلام الناس وتطلعات البشر بأهمية نشوء المدينة الفاضلة وصفاتها وعوالمها، هناك في نفس الوقت أدب المدينة الفاسدة، وهو أدب يُقدَّم عبر نصوص أدبية، خصوصا في روايات معروفة لكتّاب معروفين، فيعرض عوالم الفساد الذي تصنعه الحكومات الدكتاتورية المستبدة، ويصنعها المتوحشون الظالمون من قادة العالم قديما وحديثا.

السؤال الذي يجب أن يُثار هنا ما الغاية من كتابة روايات تغص بعوالم فاسدة، فإذا كنّا نوافق ونبحث عن روايات المضامين الفاضلة، فإن الهدف واضح حيث يحتاج البشر دائما إلى من يرشدهم في هذه الحياة على الفضيلة وسبل السلام وتثبيت القيم الجيدة، لكن الغرابة تكمن في إقدام كثير من الكتاب ومنهم من المعروفين والمشهورين على كتابة نصوص روائية مشبعة بمضامين الشر والخبث والخراب.

ما الغاية من ذلك، فحين نتكلم عن رواية جورج أورويل التي تحمل عنون (1984)، سوف نلاحظ أنه يتطرق بقسوة ووضوح إلى دولة عظمى غازية يحكمها نظام دكتاتوري شمولي متوحش، أما الغاية من ذلك فهي إظهار العيوب والجرائم والمآسي المهلكة التي تنتج عن الأنظمة الشمولية حكومية أو سواها، فكل شيء يمت إلى الاستبداد بصلة، فإنه ينتج الكوارث والدمار والخراب والوحشية، وقد تكون قراءة روايات من هذا النوع تجنب العالم مثل هذه النماذج التي تنحرف بالبشر نحو الهاوية.

فضح الأنظمة الشمولية المتوحشة

تذكر لنا التواريخ والمصادر المثبتة (بأن هناك أدب خاص بالمدينة الفاسدة، أو ديستوبيا أو عالم الواقع المرير (بالإنجليزية: Dystopia) وهو مجتمع خيالي، فاسد أو مخيف أو غير مرغوب فيه بطريقة ما. وهو عكس أدب المدينة الفاضلة، وقد تعني الديستوبيا مجتمع غير فاضل تسوده الفوضى، فهو عالم وهمي ليس للخير فيه مكان، يحكمه الشر المطلق، ومن أبرز ملامحه الخراب، والقتل والقمع والفقر والمرض).

هذا هو عالم الديستوبيا، عالم مليء بالشر، والقتل، ولا وجود للسلام فيه مطلقا، وهذه النصوص الروائية معظمها قائم على المخيلة الروائية ذات المديات الواسعة، وهي تريد أن تستعرض العوالم المناقضة لأدب المدينة الفاضلة أو (اليوتوبيا) وهي المدينة الخالية من الشر، وقد يتعظ البشر عندما يعيش الكوابيس والجرائم والبشاعة والتوحش في (أدب وروايات المدينة الفاسدة) فيرتدع، ويقف بالضد من الحكومات والأنظمة الدكتاتورية المتوحشة.

باختصار أدب المدينة الفاسدة، الديستوبيا هو عالم يتجرد فيه الإنسان من إنسانيته، ويتحوّل فيه المجتمع إلىٰ مجموعة من المسوخ تناحر بعضها بعضاً. ومعنى الديستوبيا باللغة اليونانية المكان الخبيث وهي عكس المكان الفاضل يوتوبيا. ولقد ظهرت قصص مثل هذه المجتمعات في العديد من الأعمال الخيالية، خصوصاً في القصص التي تقع في مستقبل تأملي.

والديستوبيات تتميز غالباً بالتجرد من الإنسانية، فهي نتاج الحكومات الشمولية والكوارث البيئية أو غيرها من الخصائص المرتبطة بانحطاط كارثي في المجتمع.

وتتنوع عناصر الديستوبيا من القضايا السياسية إلى القضايا الاقتصادية أو حتى البيئية. فالمجتمعات الديستوبية قد توجد في سلسلة واسعة من الأنواع الفرعية من الخيال العلمي، وعادة تستخدم هذه القصص والروايات لتسليط الضوء على القضايا الموجودة في العالم الواقعي المتعلقة بالمجتمع والبيئة والسياسة والدين وعلم النفس والقيم الروحية أو التكنولوجيا التي قد تصبح الحاضر في المستقبل. لهذا السبب، اتخذت الديستوبيا شكل العديد من التكهنات، مثل التلوث والفقر والانهيار المجتمعي والقمع السياسي أو الشمولية.

أعمال روائية عن المدن الفاسدة

من أهم الأعمال الأدبية في هذا الاتجاه رواية ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون، حيث تصور الرواية دولة شمولية غازية عظمى؛ ورواية كالوكين للكاتبة السويدية كارين بوي التي تعتبر ملهمة جورج أورويل في رواية ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون وكذلك قصة فهرنهايت 451؛ فالدولة تحرق الكتب خوفا من ما قد تحرض عليه.

وهنالك أيضا رواية ألعاب الجوع، حيث أن الحكومة تسيطر على شعبها من خلال الحفاظ على حالة مستمرة من الخوف من خلال معارك تشعلها حتى الموت؛ ورواية المانح للكاتبة لوريس لوري التي تصور عالمًا قضى على العاطفة في حياة أفراده مجتمع يبدو يوتويوبيًا إلى أن يكتشف انه دستوبيًا.

وتوجد كذلك (رواية الجليل والصعلوك) للكاتب محمد سالم تتحدث عن قرية خيالية تعيش في طغيان مستشري؛ وكذلك رواية عطارد للكاتب محمد ربيع وتتحدث عن مصر في المستقبل المظلم الذي ينتظرها.

وهناك كذلك روايتا "يوتوبيا" وفي ممر الفئران للكاتب المصري أحمد خالد توفيق حيث تناقشان صورا مستقبلية مضخمة للانقسامات الطبقية والمجتمعية في مصر والعالم وحسب مصادر القوة والنفوذ في المجتمع. كذلك نجد رواية دستوبيا 13 للروائي والصحفي التونسي محمد بوكوم والتي تتحدث عن صراع أخلاقي واجتماعي وطبقي، وتسلط الضوء على فساد الدولة ومعاناة المهمشين في الأحياء الفقيرة.

وكما قلنا إن أدب المدينة الفاسدة يقف بالضد من أدب المدينة الفاضلة، والغرض منه ليس ترسيخ قيم وعوالم المدن الفاسدة، وإنما فضحها التام من خلال تسليط كتّابها الضوء على الدول (المتخيَّلة) التي تقودها حكومات شمولية متوحشة، تشكل النقيض السيّئ للنظام السياسي الديمقراطي الحقيقي الذي يكفل للبشر حياة قائمة على العدالة والإنصاف والسلام.

اضف تعليق