عش مثقفا لكي تكون غنيا وإن كانت مواردك بسيطة، أو عش جاهلا لكي تكون فقيرا حتى لو كنت أثرى الأثرياء، هذه الحقيقة لا نقولها من باب الاختباء وراء الصور البراقة التي تقدمها الكلمات الجميلة للناس لكي لا يتحسّروا على المادة والمال...
يتندّر عيّنة من الشباب، وحتى من كبار السن والتجارب للأسف، على جملةِ أو هدفِ (البناء الثقافي)، وينظر هؤلاء إلى الثقافة كمفردة وكمحتوى بازدراء، أو سخرية غير مبررة، وغالبا ما يربطون دور الثقافة بالواقع وما يدور فيه، فيعزون كل ما يحدث من مساوئ إلى قلّة المال والعوز المادي، وعندما يُقال لهم إن السبب في العوز أساسه ثقافي، ينكرون ذلك ويرفضون مثل هذه الآراء ويصرّون على أن الثقافة لا علاقة لها بمستوى معيشة الإنسان.
هذا النكران لدور الثقافة، والنظر إليه على أنه نوع من الترف، هو الذي يضاعف من حالات الفقر الفكري والسلوكي في المجتمع، ومن الغريب حقا أن هناك أناسا كبارا في العمر، لم يتنبّهوا حتى بعد أن تجاوزت أعمارهم الستين أو السبعين، إلى هذه الرؤية الخاطئة للثقافة ودورها في تحسين حياة الناس، والغريب أكثر هو إصرارهم على أن المادة هي التي تبني الإنسان وتساعد على تطوّر المجتمع حتى لو تم ذلك في ظل التخلّف!
من هو الغني فعلا؟
بعضهم يضرب لك مثلا عن التاجر أو الغني الفلاني، وأنه لم يحصل على شهادة المتوسطة أو الابتدائية، ولكنه مع ذلك استطاع أن يجمع ثروة كبيرة وأن يعيش هو وعائلته في مستوى عال من الرفاهية، فأين الثقافة من هذا التاجر وأين دورها وهو لم يقرأ كتابا واحدا في حياته كلها، وللإجابة عن مثل هذه التبريرات أو المحاججات نقول:
أولا: لا توجد علاقة مباشرة بين ثقافة الإنسان وشهادته أو تحصيله العلمي، فهنالك الكثير ممن حصلوا على شهادات عليا في مختلف الحقول العلمية والإنسانية، لكنهم مع ذلك ظلوا أسارى الجهل، وبقي سلوكهم ينتمي للتخلف، وغالبا ما تغيب عنهم الرؤية الصحيحة لحل أبسط المشكلات.
ثانيا: هنالك أشخاص لا يمتلكون أي نوع من الشهادات الدراسية العليا أو الدنيا، لكنهم مع ذلك يُحسبون من المثقفين الواعين، لأنهم طوّروا أنفسهم وعقولهم بجهود ذاتية، بعد أن غاصوا في بطون الكتب والعلوم المختلفة، وصاروا بسبب إصرارهم على تطوير عقولهم أكثر وعيا وفهما للحياة وما يدور فيها.
ثالثا: لا يمكن للإنسان المثقف والمطّلع أن يتساوى مع الإنسان الكسول الخامل الذي يفرّ بعيدا عن أي نوع من الجهود التي تجعله أكثر وعيا وفهما لما يدور حوله، وبهذا هو يفضل أن يرتقي سيارة فارهة، ويسكن قصرا كبيرا بمصاحبة الجهل وقصر النظر وعدم رؤية الحياة بجوهرها الصحيح، وهؤلاء غالبا ما يغادرون الحياة وهم في هذا الوعي المغلق.
تبادل الأدوار بين الغنى والفقر
لهذا من الأفضل للإنسان، أن يبني نفسه ثقافيا، ثم يركز على البناء المادي بعد ذلك أو في موازاة ذلك، أما أن يتم إهمال الثقافة والوعي والكتب والعلوم على أساس أنها غير ذات جدوى، وأنها ضرب من ضروب مضيعة الوقت والجهد، فهذا القول قاصر وغير سليم، ولا يستند إلى رؤية حكيمة، لأن الثقافة هي التي تقود المال وليس العكس.
ذات يوم أخبرني أحد الأثرياء في جلسة خاصة، أنه مستعد لتبادل ممتلكاته مع ممتلكات أي إنسان آخر يمتلك نوعا آخر من الكنوز غير المادية، ويقصد بأنه يمتلك الثقافة، وهو مؤلّف لعدد من المؤلَّفات المعتبَرة، ويضيف قائلا (أنا فعلا أتحسَّر على ثروة الثقافة وتأليف الكتب رغم أنني أمتلك الكثير من الأموال، مثلما يتحسَّر بعض المؤلّفين على الثروة المادية).
العِبرة ليست في جمع الثروة، ولا في فقدانها، بقدر ما يتعلق الأمر بطبيعة وطريقة الحياة التي يعيشها الإنسان، فهناك أناس فقراء يعيشون بطريقة الأغنياء في ظل موارد بسيطة، وهناك أغنياء يعيشون فقراء في ظل موارد ضخمة، إنها الثقافة والوعي والبناء الثقافي للإنسان وعقله، هنا تكمن القضية تماما، فإن كنت مثقفا يمكنك أن تعيش غنيا حتى لو كانت أموالك ليست كثيرة، هل في هذا الكلام ضرب من التضاد مع الحقيقة؟
الجواب: كلا، عش مثقفا لكي تكون غنيا وإن كانت مواردك بسيطة، أو عش جاهلا لكي تكون فقيرا حتى لو كنت أثرى الأثرياء، هذه الحقيقة لا نقولها من باب الاختباء وراء الصور البراقة التي تقدمها الكلمات الجميلة للناس لكي لا يتحسّروا على المادة والمال، بل هي الحقيقة الناصعة التي تقول بأن الإنسان المبني ثقافيا وفكريا أفضل بكثير من الثري الجاهل.
اضف تعليق