اليوم بعد مرور ستة عقود على تلك المدينة المتخيَّلة في رأسي، بدأتُ أحلم بالفعل بمدينة كربلاء المقدسة التي تشبه تلك التي حلمت بها قبل عقود بعيدة، وظهرت الحاجة واضحة وجلية لبناء هذه المدينة، خصوصا بنيتها التحتية، لأننا لمسنا اليوم لمس اليد ورؤية العين هذه الملايين من الزوار الكرام التي تتدفق على المدينة دونما توقّف...
لازلتُ حتى اللحظة، أتذكّر دخولي إلى هذه المدينة منتقلا مع عائلتي من قضاء يتبع لها إلى أحد الأحياء السكنية في مركزها، حصلنا على مأوى وسجَّلني والدي رحمه الله في مدرسة الخزرجية الابتدائية، في الصف الأول الابتدائي، وبدأت رحلتي الدراسية التي لم تمنعني من الزيارة اليومية لقلب كربلاء المقدسة، حيث ضريح الإمام الحسين وضريح أخيه العباس (عليهما السلام)، كانت المدينة آنذاك بسيطة في بناياتها وفنادقها القليلة وشوارعها الحسيرة، وكانت المنائر والقباب الذهبية تُرى من مسافات بعيدة.
يتميز مركز كربلاء بوجود المرقدين الشريفين، وبشارع وحيد يربط بين الحرمين، عرض هذا الشارع لا يتجاوز عدة أمتار، تنهض على جانبيه محال تعرض سلعا وأشياء مختلفة، من بينها العصائر والشربت (ودوندرمه الفرات) إضافة إلى الدكاكين الصغيرة التي كانت تبيع سلعا ذات طابع ديني كالسجادات، والخواتم ذات الأحجار الكريمة والسِبَح بخرز مختلفة بعضها مصنوع من الفخار الملوّن وهناك ما هي أثمن مثل خرز السندلوس وسواها.
كنتُ أجوب المدينة يوميا، وأعمل فيها حتى أثناء الدراسة، أدور في أسواقها الشعبية (ودرابينها)، وأزقّتها الضيقة، ولا زلت حتى هذه اللحظة أحتفظ لهذه المدينة بصور فريدة من نوعها في مخيلتي، صور ذات مغزى ديني روحاني يتميز بالعمق والبساطة، وكانت المدينة تحتفل في مواليد الأئمة، وتقيم المآتم ومراسيم العزاء في عاشوراء، ولكن كانت هذه الطقوس تتم بشكل بسيط منظّم عفوي يمتاز بالصدق والحيوية والانتماء الحقيقي لهذه الأجواء.
كنتُ أشتغل بشكل يومي في مركز المدينة، لم تخطر على بالكم مهنة إلا واشتغلتُ فيها، منها عامل مطعم كباب في أكثر من مكان، وبائع أسكيمو أجوب الشوارع في عربة مصنوعة من الخشب، وبائع (صمون/ خبز) أضع صينية من الفافون ممتلئة بخمسين أو أكثر من الصمون وأجوب (درابين) مركز المدينة، مطلقا صوتي في أجواء الصمت الفجري العميق، بحيث ينهض الكثير من ربات البيوت على صوتي ويستيقظ الكثير من الرجال إلى أعمالهم.
المدينة المقدسة تكبر وتنمو
كان لهذه المدينة في طفولتي رائحة خاصة هي رائحة القداسة والبساطة والنقاء والتعامل المحبب الذي يسوده التعاون والحرص على العدالة في كل شيء، أتذكر أكثر من مرة كنا نجمع ما نحصل عليه من فلوس نتيجة عملنا في بيع الصمون، ثم نعدّ النقود ونقتسمها بالتساوي من دون أن نعرف من هو الرابح ومن هو الخاسر منّا، ولم نكن نفكر في هذا مطلقا، وكنا نعود إلى أهلنا بأجساد هدّها تعب التجوال المستمر لكن كانت هناك بهجة طفولية مضيئة تملأ قلوبنا ونفوسنا راحة وأمان من نوع خاص.
في ذلك العمر الابتدائي القليل، مقتبل العمر، كنت أشعر أن المدينة المقدسة تكبر يوما بعد يوم وتنمو، وتعلو بناياتها أكثر فأكثر، ويزداد زوّارها بشكل مستمر، ومع مرور السنوات كانت الشوارع تمتلئ بأحباب الحسين عليه السلام، وكانت الزيارات تكبر وتتضخّم والاحتياجات التي تتطلبها المواكب الحسينية ومواكب العزاء في داخل كربلاء وخارجها تتعاظم وتزداد.
في ذلك العمر المبكر أطلقتُ العنان لخيالي الهندسي خارج إطار الحساب والرياضيات والمعادلات العلمية التي لا تقبل الانفلات المتخيَّل، كنتُ أبني في خيالي مدينة أخرى تقوم على المدينة القديمة الصغيرة بشوارعها، وكنت أتخيل أن زوار أبي عبد الله سوف تتضاعف حتى تبلغ الملايين، فكنت أرسم فنادق من طراز خاص، وشوارع عريضة، وساحات منبسطة لا تحدّها حدود، وكنتُ شديد الحرص على زيادة المرافق الصحية لأنني كنت أرى كيف يعاني الزائر الكريم حين يريد أن يقضي حاجته بشكل سريع وفوري، تلك هي مدينة الخيال الطفولي التي رسمتها في رأسي في ذلك العمر المبكّر.
وغالبا ما كنتُ أتكلم عن هذه المدينة لأقراني في المحلّة، أو في المدرسة، وفي إحدى حصص مادة الإسلامية سألني معلم القرآن عن مدينة كربلاء المقدسة المستقبلية التي رسمتها في رأسي آنذاك، فنهضتُ واقفا عند سبورة الصف، وجهي على الطلاب وبدأت أقصّ لهم طبيعة هذه المدينة المستقبلية.
مدينة الخيال الهندسي
في ذلك الوقت المبكر ورغم أنني لم أتعمق في علم الهندسة أو البناء، إلا أنني ركزت كثيرا على البنية التحتية، والخدمات الأساسية (الماء والكهرباء والفنادق والطرق والجسور والساحات والحدائق) والمساحات الخضراء التي يجب أن تمتلئ بها المدينة المقدسة، ولم أنسَ مشاركة الفنون المختلفة في تمييز شوارع المدينة وساحاتها.
اليوم بعد مرور ستة عقود على تلك المدينة المتخيَّلة في رأسي، بدأتُ أحلم بالفعل بمدينة كربلاء المقدسة التي تشبه تلك التي حلمت بها قبل عقود بعيدة، وظهرت الحاجة واضحة وجلية لبناء هذه المدينة، خصوصا بنيتها التحتية، لأننا لمسنا اليوم لمس اليد ورؤية العين هذه الملايين من الزوار الكرام التي تتدفق على المدينة دونما توقّف، فهل يصح أن نغفل إتمام مثل هذا الهدف الكبير الذي تستحقه كربلاء المقدسة ويستحقه الإمام الحسين عليه السلام ويستحقه الزوار الكرام القادمون من أرجاء العالم.
إنها دعوة نقدمها لكل من يعنيه الأمر، دعوة للاهتمام الحقيقي الجاد بإكمال البنى التحتية لمدينة كربلاء، مع الأخذ بالاعتبار أنها تحتضن الملايين سنويا، وهؤلاء يستحقون جميع الخدمات التي تليق بضيوف الإمام الحسين، لا يحتاج الأمر أكثر من (توفير الأموال اللازمة) وهي متوفرة، وكذلك توافر الإرادة الصادقة للبناء، وإطلاق العنان للخيال الهندسي الذي يمكنه تطوير هذه المدينة بما يتناسب مع طبيعتها وإرثها الثوري العريق، مع أهمية إشراك جميع الفنون الفعالة المعبّرة لإبراز مآثر الطف و الوقفة البطولية لثائر كربلاء المقدسة.
اضف تعليق