التفتيت هو تجزيء الكل القوي.. وتحويله الى أجزاء أو مكونات صغيرة (دويلات، او مناطق، أو تجمعات صغيرة) يسهل التحكم بها، وهي استراتيجية لجأت إليها الدول الاستعمارية إبان حملات الاستعمار لاحتلال الدول الفقيرة والضعيفة، وسبقتها الى ذلك امبراطوريات مندثرة، وجدت في زرع التفرقة بين مكونات الخصوم، اسلوبا جاهزا وسهلا للتغلب عليهم، وقد حدث هذا عبر التاريخ البعيد والمنظور والقريب.
أقرب مثال على ذلك سياسة التفتيت التي اتبعتها (الامبراطورية الانكليزية) عندما كانت القوة الأعظم قبل بضعة قرون، ونعني بهذه السياسة (فرّقْ تسُدْ)، التي انتهجتها في التعامل مع خصومها، وخاصة تلك الدول التي وجدت صعوبة في استعمارها واخضاعها لهيمنتها، وقد لجأت برطانيا العظمى الى اثارة المشكلات والفتن والنعرات الطائفية بين الشعوب، بعضها مع بعض، وبين مكونات الشعب الواحد ايضا، لكي تضعف من وحدتها وتماسكها.
وقد أتت ثمار (التفتيت) أكُلها، وعادت بنتائج مغرية لبريطانيا الاستعمارية آنذاك، الامر الذي جعلها تتمسك بهذه الاستراتيجية، الى آخر لحظة من سطوتها على كثير من دول العالم، فأخذتها عنها دول استعمارية اخرى، وخاصة (اسرائيل) التي تعاملت مع العرب وفق هذه السياسة، فجندت الاموال والشركات والمخابرات المحلية والدولية والشخصيات، كي تنجح في سياسة تفتيت العرب والمسلمين، وتبقى هي اللاعب الأقوى في المنطقة.
تقف معها في ذلك امريكا، الدولة الاستعمارية الكبرى، التي ادركت ان الشكل القديم للاستعمار (بالقوة العسكرية)، لم يعد يتوافق مع منطق العصر، فلجأت الى أشكال اخرى من الاستعمار ومنها (الثقافية والاقتصادية)، وتمسكت كما تشير أدلّة كثيرة الى ذلك، باستراتيجية (التفتيت)، حتى يبقى خصومها (الذين خلقتهم هي بنفسها)، ضعفاء لا حيلة لهم في مواجهتها، أو مواجهة حليفاتها، مثل اسرائيل التي تخطط منذ اكثر من قرن للسيطرة على الدول العربية المجاورة لها، بل على دول الشرق الاوسط، فضلا عن احتلالها لأرض فلسطين.
ما الفائدة من إلغاء سوريا والعراق؟
كيف يتحقق هذا الهدف لاسرائيل، وكيف يتحقق لأمريكا؟، لا شك أن سياسة التفتيت، تعد من أفضل الأساليب التي تقرّب هاتين الدولتين وحلفائهما من أهدافهما، وإلا ما الفائدة التي يمكن أن تُجنى من إلغاء دول عريقة من خارطة العالم، مثل سوريا والعراق؟!، ثم من الذي يتحمل عواقب مثل هذا الإلغاء اذا تحقق على الارض، لاسيما أننا بدأنا نلمس بشكل جدي نتائج استراتيجية التفتيت في المنطقة.
فما سمّيَ بالربيع العربي، كان يمثل بداية المرحلة الجديدة التي خطط لها الغرب وخصوصا امريكا، وبدأ التطبيق الفعلي من خلالها لنظرية (الفوضى الخلاقة)، وكانت حرب اسرائيل على جنوب لبنان في 2006، تشكل بداية أخطر لتطبيق النظرية نفسها، عندما أحالت القوات الاسرائيلية مناطق الجنوب اللبناني كلها الى ركام يتكدس بعضه فوق بعض.
علما أن استراتيجية التفتيت بشكلها الجديد، قد بدأت منذ قررت امريكا أن تعاقب شعوبا ودولا بأكملها بعد أحداث سبتمبر ايلول 2001، فضربت افغانستان واقصت طالبان عن الحكم، لتتحول الى العراق وتدمر كل المؤسسات والبنى التي تؤشر وجود الدولة العراقية، ولم يكن احد من العراقيين إلا ما ندر، يتوقع أن الهدف من اجتياح العراق، هو إدخال المنطقة في دوّامة (نظرية الفوضى الخلاقة)، وإعادة ترتيب دول المنطقة بما يتسق والاهداف الامريكية والاسرائيلية.
ليأتي الدور على سورية وشعبها، حتى باتت هذه الدولة القوية المستقرة والمتآلفة نسبيا، ساحة للاقتتال الطائفي والتطرف الديني، بمساعدة امريكية غربية معلنة، واسرائيلية خفية، وثمة صراعات آخرى للقوى الدولية والاقليمية (امريكا، روسيا، ايران، السعودية)، يدور رحاها بالوكالة على الارض السورية، وكل من الاطراف يستخدم وسيلته المناسبة والفاعلة، ونعني بها استراتيجية التفتيت واثارة الفتن والاحتراب الى اقصى حد ممكن بين مكونات الشعب الواحد.
كذلك هناك حصة لدولة لبنان الصغيرة، فهي ايضا يجب ان تتم معاقبتها وفقا للمنظور الامريكي، خاصة ان حزب الله يد ايران الضاربة في لبنان، يقف شوكة في خاصرة اسرائيل، لذلك ينبغي ان تعاقب لبنان باسلوب التفتيت نفسه، فها هي الحكومة متناحرة والبلاد يأكلها الفساد والنفايات التي خنقت حريتها وجمالها الذي كان يُضرَب به المثل، أما اليوم فلبنان عبارة عن قوى صغيرة مجزّأة ومتقاتلة بالكلام والتصريحات والاهداف، والولاء للخارج.
العراق لم يعد واحة للديمقراطية!
كما هو الحال مع العراق، الذي أعلنت امريكا أنها سوف تصنع منه (واحة ديمقراطية) في بداية اجتياحها له، ليصبح صورة مصغرة لامريكا الديمقراطية، وليكن نموذجا لدول الخليج والمنطقة ذات الانظمة السياسية الوراثية أو المستبدة، ولكن سرعان ما (عادت حليمة الى عادتها القديمة)، حيث وجدث امريكا نفسها داعية لتقسيم العراق على لسان بايدن ومشروعه المعروف، متبوعا بتصريحات لمسؤولين عن حتمية تجزيء العراق الى دويلات.
وهذا الامر يثير استياء العراقيين، كونهم يشعرون أن هناك من يريد أن (يلغي بلدهم من الوجود)، كما اعلن بايدن سابقا بتقسيم العراق الى ثلاث دويلات، واستنادا الى آخر ما صدر في هذا الشأن، اذ لم يكتف التصريح الامريكي بالعراق فقط، بل ألحق سوريا معه، عندما أعلن مؤخرا مدير الإستخبارات الدفاعية الأمريكية “فنسنت ستيوارت” عن مخاوفه ومخاوف بلاده من إختفاء العراق وسوريا من خريطة العالم قريباً!.
وأضاف فنسنت "بأن العالم يقترب من وقت سيأتي على سوريا ستقسم فيه إلى مدن صغيرة، وأن هذا ليس بوضع مثالي، وسيجلب أموراً عديدة غير متوقعة على العالم، وسيكون صعباً على الجميع إعادة ترتيب أوراق اللعبة من جديد، خاصة بعد أن تحوّل الدور الروسي في المنطقة، من التعاون الخفي من سوريا ونظام بشار الأسد، الى التعاون المعلَن.
بعدما أصبح موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين علنياً في الفترة الأخيرة و واضحاً وصريحاً للجميع بخصوص الدعم العسكري الذي تقدمه موسكو إلي سوريا، وإرسال الأسلحة إلى سوريا لدعم نظام الأسد، وتصريحه بأن بلاده قد قدمت وسوف تستمر في تقديم العون وكل الدعم سواء العسكري أو التكنولوجي لسوريا.
في حين عبر الرئيس الأمريكي أوباما عن خوف بلاده من التواجد العسكري والتدخل الروسي في الشأن السوري، وأضاف أن بلاده سوف تعمل مع الجانب الروسي حتى يعرفوا إستحالة إستمرارية العمل بإستراتيجية سوف تبوء بالفشل لا محالة. في اشارة الى الدعم الروسي المسلَّح لسوريا، وقد نشرت وسائل اعلامية أن أمريكا تدرس الآن عدة بدائل محتملة لإيجاد وسيلة لإيقاف التدخل الروسي في الشأن السوري وعلى رأسهم الرئيس الروسي بوتين.
لقد تحول العراق وسوريا الى ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى، ومصالحها، من دون مراعاة للتفريط بمستقبل هذين البلدين وشعبيهما ودول المنطقة، وليس ادل على ذلك من نزوح الملايين وهجرة الآلاف في اكبر موجة نزوح وهجرة في التاريخ، بحثا عن مكان يخلو من الموت، وذلك عندما باشرت القوى الطامعة بتغيير واقع المنطقة بما يلائم مصالحها، باستخدام سياسة اثارة الفتن وادامة التطرف، من دون أن تراعي أمن الشعوب والدول، حيث تهدف وفق استراتيجية التفتيت الجديدة الى إزالة دول كـ (سوريا والعراق) من خريطة العالم!.
اضف تعليق