هناك قاسم مشترك يربط بين الدول المتأخرة، ويقرِّب درجة التشابه بينها، يتمثل بالفساد الذي ستظهر نتائجه، بصور وحالات متشابهة في جميع هذه البلدان، لأنها تأتي كحصيلة واحدة لسبب واحد، لذا فإن تفشّي الفساد سينتج عنه ظواهر متقاربة في البلدان المتأخرة، يتقدَّمها الفقر على سواه، ويسودها ضعف في القانون، وانتشار المافيوية في ادارة شؤون البلاد، وغالبا ما تتصدر قيادة هذه الدول أنظمة قمعية، أو تابعة، أو ضعيفة، فتساعد على الفساد وتكون سببا في انتشاره على الصعيدين السياسي والاجتماعي.
تحاول الدول التي تعاني من الفساد أن تكبح هذه العقبة الكأداء، وتعالجها وتحد من مساوئها، من خلال تأسيس وتفعيل اجهزة رقابية، تكافح الفساد بكل أنوعه، لكي تبني مجتمعا ودولة قادرة على اللحاق بالدول القوية، وتلجأ الدول ذات الفساد الى هذا الحل الرقابي القانوني الاداري، أملا في مكافحة وتقليل آثار الفساد الفتّاكة، وهو علاج ربما يؤتي أكُلُه بصورة متدرجة، لكن بدأت تلوح في الأفق مشكلة أخرى تثير القلق حقا، وتزرع بذور اليأس في نفوس الساعين الى الخلاص من آفة الفساد.
هذه المشكلة تتمثل بفساد الأجهزة الرقابية نفسها، فالدول التي حاولت ان تحد من هذه الظاهرة الخطيرة، وعوَّلت على الاجهزة الرقابية كالنزاهة والقضاء وسواهما، صُدِمَتْ في واقع الحال عندما تسلل الفساد الى الاجهزة الرقابية نفسها، وبات المثل الشهير ينطبق عليها فعلا (حاميها حراميها)، فعندما يتحول الرقيب على الفساد الى فاسد ومربّي وداعم للفساد في الدولة والمجتمع، عند ذاك حتى سبل التخلص من الفساد تُصاب بالعلّة نفسها، وعند هذه الحالة تحديدا، تبدو مسألة الحد من ظاهرة الفساد مثل الاحلام المستحيلة، تلك التي قد لا تتحقق في الواقع قط!.
هنا في هذه الحالة، حتى العلاج يتعرض للاصابة بالمرض، بمعنى أوضح، يصبح الفساد من القوة والتأثير، بحيث حتى وسائل وسبل مكافحته، تصبح فريسة له، فعندما يتسلل الفساد الى القانون نفسه، في الجانب التطبيقي وربما النصّي ايضا، وعندما يتحول الرقيب الى مبتزّ او مرتشٍ، أو الى مساوم من الدرجة الأولى مع أرباب الفساد وصنّاعهِ، عند ذاك تصبح قضية المعالجة أمرا شائكا يصعًب تحقيقه، لذلك ليس امام من يهمهم الامر سوى البحث عن حلول ناجعة، غير قابلة لاستقبال الفساد واحتضانه كما يحدث مع الأجهزة الرقابية، ولعل الأمثلة كثيرة هنا في هذا الجانب، قد تكون أمثلة عن اجهزة ذات صفة جمعة، وقد تحدث لدى أفراد ينتمون الى اجهزة رقابية تطبّق القانون من صيغته النصيّة الى العملية.
ولعل الجانب الأخطر في قضية الفساد، عندما يخترق منظومة القيم في المجتمع، ولا يكتفي بهذا، بل يعبرها الى التأثير في المنظومة العرفية، فتنشأ قيم دخيلة تعاضد الفساد وتعاونه على نخر مؤسسات الدولة ومكونات المجتمع، عند ذاك يصبح الفساد قيمة غير معترّض عليها، بل سوف يتنافس الجميع على انتاج الفساد!، تحقيقا لمنافع ومكاسب فردية وعائلية وجماعية، هنا يصبح الفساد آفة لا يمكن الإفلات من سمومها القاتلة، وما أصعب أن يتحول الفساد من قضية مذمومة وكريهة، الى قيمة مقبولة تنتشر بين الناس، والمهم لديهم في نهاية المطاف كيف يكسب اموالا أكثر بغض النظر عن الوسيلة، فالاختلاس اصبح (شطارة)، وسرقة المال العام (بغض النظر عن المشروعية)، أصبح طريقا للثراء المقبول!.
من هنا ليس امام الدول المتأخرة طريقا لدرء خطر الفساد، سوى الإسراع بإيجاد سلسلة متلاحقة من الحلول الجذرية والجديدة في الوقت نفسه، تستهدف الجوانب والقضايا التي تصبّ في زيادة قوة القانون الفعلية وليس النصيّة، فضلا عن مكافحة القيم الدخيلة والمتسللة حديثا الى بنية المجتمع، وليس هنا ثمار قابلة للقطف في هذا المجال، إلا بعد تحويل الخطط النظرية الى عمل يحرث في ارض الواقع المجتمعي، والحكومي.
أي ينبغي أن تعمل وسائل العلاج وخطواته على أكثر من صعيد، فتشرعُ في معالجة المفاصل الحاكمة في الدولة أولا، وتقتص من أرباب الفساد فيها، بقوة لا تقبل التردد او الخشية او المحاباة، فالضرب بقبضة من حديد على أيدي السراق الكبار (الحيتان)، ينبغي أن يتقدم على معاقبة الصغار المؤيدين للحيتان، خشية منهم وخوفا على مصالحهم المادية الآنية، على ان يتم ذلك بتشريع قوانين عادلة ورادعة في الوقت نفسه، أما الصعيد المحايث للقصاص العادل من الاجهزة الحكومية المعنية، فإنه يتمثل بمكافحة الهبوط في الخط البياني للقيم الاجتماعية والعرفية، وكل ما يتعلق بحماية النسيج المجتمعي من التهتّك القيَمي، ومنع القيم الوافدة أو التي أفرزتها الوقائع المستجدة، من التسلل الى القيم والاعراف التي اعتادها المجتمع، وارتكز عليها أخلاقيا ومعنويا، فيكون العلاج ذا مسارين احدهما يدعم الاخر وكلاهما يصبّان في معالجة الفساد، واستئصاله بطرائق قانونية فعالة، من الاجهزة والمؤسسات الحكومية، ومن الاجهزة الرقابية، مع النهوض بالجانب المجتمعي للقيم وتعميقها وترسيخها وضبط السلوكين الفردي والجمعي، وفقا لمنظومة القيم الجيدة والفعّالة، وصولا الى الهدف الأم والغاية القصوى، التي تتمثل بالقضاء على الفساد والحد من مخاطره الكبيرة والكثيرة.
اضف تعليق