q
بناء الإنسان المتحضّر يجب أن يكون هدفا ذا مسارين ومسؤوليتين، المسؤولية الأولى الفرد نفسه مسؤول عن معالجة فقره الحضاري من خلال تنمية أفكاره والحفاظ على مبادئه وأخلاقه، والمسؤولية الثانية هي مسؤولية جماعية نخبوية، مسؤولية القادة والأقوياء اقتصاديا وماليا وسياسيا، هؤلاء يجب أن يعملوا على نبذ التحضّر الشكلي المادي، والاهتمام البالغ بالحضارة الفكرية المبدئية القيمية...

الحضارة هي النتاج الفكري والثقافي والمادي المتراكم لأمةٍ من الأمم والتي تمنحها خاصيةً مميزة عن الأمم الأخرى. ولا يمكن حصر الحضارة على الجانب المادي فقط كالمباني والقلاع والقصور أو اختزالها في أنماطٍ سياسية، كالإمبراطوريات والأسر الحاكمة والدول، بل بما تنتجه أمةٌ ما من خصائص مميزة وفنون وإبداع وثقافة.

الحضارة يمكن أن نصفها أيضا بأنها نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وبحسب ذوي الشأن فإن الحضارة تتألف من أربعة عناصر هي:

أولا: الموارد الاقتصادية.

ثانيا: النظم السياسية.

ثالثا: التقاليد الأخلاقية.

رابعا: العلوم والفنون.

وهذه العناصر تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمِنَ الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تحفزه على النهوض والمضي في طريقه إلى فهم الحياة، والعمل على ازدهارها، ثم يصف العلماء المعنيون بتوصيف الحضارة: هي الرقيّ والازدهار في جميع الميادين والمجالات.

ترتكز الحضارة على البحث العلمي والفني التشكيلي بالدرجة الأولى، فالجانب العلمي يتمثل في الابتكارات التكنولوجيا وعلم الاجتماع، فأما الجانب الفني التشكيلي فهو يتمثل في الفنون المعمارية والمنحوتات وبعض الفنون التي تساهم في الرقيّ. فلو ركزنا ودققنا على أكبر الحضارات في العالم مثل الحضارة الرومانية سنجد أنها كانت تمتلك علماء وفنانين عظماء. فالفن والعلم هما عنصران متكاملان يقودان أي حضارة للغني أو نقيضه.

مشكلة الاختلال بين المادة والقيم

ما الذي نقصده بالفقر الحضاري، أو فقر الحضارة؟، إن المقصود هو فقر في العناصر التي تساند الحضارة كي ترتقي، فإذا حدث اختلال بين المادي والمعنوي والفكري في مجتمع معين، فإن هذا الاختلال سوف يصيبه بفقر الحضارة، ونعني بها الفقر، ضعف الفنون، وتسطيح الفقر، وضعف الأخلاقيات أو غيابها، وسيطرة النزعات المادية الاستهلاكية، وتهميش القيم الصالحة، وتدمير الأفكار المهمة التي تبني الإنسان فكريا ودينيا وأخلاقيا وسلوكيا.

الحضارة في اللغة العربية هي كلمة مشتقة من الفعل حضر، ويقال الحضارة هي تشييد القرى والأرياف والمنازل المسكونة، فهي خلاف البدو والبداوة والبادية، وتستخدم اللفظة في الدلالة على المجتمع المعقد الذي يعيش أكثر أفراده في المدن ويمارسون الزراعة، التعدين، التصنيع على مستوى مصغر، والتجارة، والأنشطة الحياتية الفاعلة.

وهذا النوع من المجتمعات يكون على خلاف المجتمعات البدوية ذات البنية القبلية التي تقوم بالتنقل المستمر بحسب الطبيعة، وتسعى للعيش بأساليب لا تربطها ببقعة جغرافية محددة، كالصيد مثلاً، ويعتبر المجتمع الصناعي الحديث شكلاً من اشكال الحضارة، لكنه قد يكون معرَّضا للفقر الحضاري في حال فقدان التوازن بين المادي والفكري أو المعنوي.

يقول أهل الشأن من علماء الحضارة، أهم مرتكز يقي الحضارة من الفقر، ويجعل عناصر ديمومتها حاضرة وموجودة على الدوام، هو عم تغليب النزعة الاستهلاكية على الأفكار، فلولا الأفكار لما أصبحت الحضارة اليوم على هذا الشكل من التطور الصناعي الهائل، وعلى مستويات عديدة منها الصناعة العملية المعروفة كصناعة السيارات والطائرات والقطارات والمعامل والآليات المختلفة الزراعية وسواها، ولدينا أيضا الذكاء الصناعي.

حضارة الترسانات النووية

كل ما بلغته الحضارة اليوم يمكن أن يتعرض للاندثار والمحو في حال تغلّبت النزعة المادية على الفكرية والأخلاقية وعلى المبادئ والقيم الإنسانية، ولعل أكبر خطر يمكن أن تتعرض له الحضارة ينتج عن فقر الأخلاق والقيم والمبادئ، لأن المادة سوف تهيمن على كل شيء وتتحول إلى غول يبتلع العالم والبشرية، ويبتلع حتى نفسه.

أليست الحضارة هي التي صنّعت الترسانة النووية المتضخمة التي تم تكديسها في الدول العظمى وغيرها؟، ثم ألا يمكن الضغط على الزر النووي في لمسة واحدة، لتتعرض الأرض والبشرية إلى الفناء، فإذا لم يكن هناك ضابط أخلاقي ومبدئي، لا يمكن أن تكون الحضارة غنية، بل تتحول إلى وحش قد يفتك بالبشرية في أية لحظة.

مطلوب من حكماء البشر وعقلائهم والمتنورين منهم، أن يقودوا سفينة المعمورة، والبشرية، بعيدا عن فقر الحضارة، وبعيدا عن ضعف الأخلاق والقيم، ويجب التصدي بقوة للغول المادي التسويقي الاستهلاكي الذي يصفونه الحضارة والتحضّر وهو على العكس من ذلك تماما، فالحضارة بلا قيم هي أفقر الأشياء قاطبة.

بناء الإنسان المتحضّر يجب أن يكون هدفا ذا مسارين ومسؤوليتين، المسؤولية الأولى الفرد نفسه مسؤول عن معالجة فقره الحضاري من خلال تنمية أفكاره والحفاظ على مبادئه وأخلاقه، والمسؤولية الثانية هي مسؤولية جماعية نخبوية، مسؤولية القادة والأقوياء اقتصاديا وماليا وسياسيا، هؤلاء يجب أن يعملوا على نبذ التحضّر الشكلي المادي، والاهتمام البالغ بالحضارة الفكرية المبدئية القيمية، في موازاة التطور المادي، حتى تتم محاربة الفقر الذي يمكن أن يطيح بالحضارة البشرية المادية.

اضف تعليق