ثقافة الاحسان مكملة لمبدأ وقانون العدل في المجتمع، فعندما يحصل الانسان على حقّه ومطالبه العادلة فان الخطوة التالية والمكملة لإسعاد نفسه والمحيطين به هي؛ الاحسان الى الآخرين بالمشاركة في مختلف المشاريع التنموية والثقافية، وفي غير ذلك فان أبواب الفساد والإفساد ستكون مفتوحة أمام الأثرياء...
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}.
الاحسان قمة في العطاء والبذل لأوسع مساحة في المجتمع، بينما الفساد القمة في السرقة، والاستئثار، والطغيان، وتدمير أكبر مساحة في المجتمع.
الأول؛ طريق يسير فيه اصحاب القلوب السليمة والأيادي البيضاء، بينما الثاني؛ طريق قساة القلوب، وممن لا يجدون للأخلاق والانسانية مكاناً في تفكيرهم وسلوكهم.
للأول؛ رجال وادعون، مسالمون، أبرز أولوياتهم احترام أنفسهم والآخرين، بينما للثاني رجال يجسدون نظرية "الغاية تبرر الوسيلة".
فكيف –والحال هكذا- نطرح تساؤلاً كهذا، ونحن نعيش في بلد مثل العراق، كما تعاني المشكلة ذاتها عديد البلاد الاسلامية المسكونة بالفساد المنظّم، ونهب ثروات الشعوب بشكل مريع؟
العدل والاحسان خطوتان متلازمتان
الجميع ينشد العدل؛ في سوق العمل، وفي القضاء، وفي توزيع الثروة وفرص العمل لأنه يلبي حقوق خاصة، وهي مشروعة ومنصوص عليها كقيمة عليا في الحياة والوجود، وفي الرؤية الدينية تعد قيمة العدل أساس العلاقات بين بني البشر، بل وأساس العلاقة بين البشر وبين الخالق –جلّ جلاله- الذي انعكست صفة العدل لديه على حياة الانسان، لذا جاء الأمر الإلهي في الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}.
ربما الفهم السائد عن العدل هو الأخذ، بينما الاحسان يعني بالعطاء، وفي بلدان مأزومة مثل العراق وأمثالها يرى الناس أنهم يراوحون في المربع الأول –كما يُقال- فهم يعيشون الظلم والاجحاف والتمييز وكل ما يتعارض مع العدل، مما يصرف أذهانهم عن مفهوم الاحسان، كما لو أن البعض يتصور أنه حال حصوله على حقوقه ومطالبه العادلة فانه سيعطف بنظره على الآخرين ويفكر بالإحسان اليهم، ولسان حال الكثير في مجتمعاتنا أن المحسنين بالضرورة هم من الميسورين والاثرياء.
بينما نظرة موضوعية الى الواقع الاجتماعي تكشف لنا الحاجة القصوى للإحسان الى جانب العدل لمعالجة مشاكل الناس ومعاناتهم، ولاسيما مشكلة الفساد في المجتمع والدولة على حدٍ سواء.
فهل يسعد المجتمع إذا أعطينا الطبيب او المهندس أو القاضي، او حتى الوزير والمدير، حقه في تخصصه العلمي، فامتلك البيت الفاخر والسيارة الفارهة وكل مستلزمات الحياة المرفهة؟ أم يفترض أن تكون لدينا حدائق عامة ومتنزهات كالتي موجودة في بيوت الميسورين، وايضاً؛ مكتبات عامة ومراكز ثقافية لنشر الوعي والمعرفة بين الشباب، وحتى مراكز لياقة بدنية وصالات للألعاب الرياضية، بل حتى ورش صناعية وفنية؟
نعم؛ العدل يعني؛ حصول كل ذي حقٍ حقه، وهذا من حيث المبدأ قيمة سامية وحجر أساس في الكيان الاجتماعي، والصحيح ايضاً؛ أن هذا المجتمع يحتاج الى شمولية العطاء، وبشكل مستدام، ولا يقتصر الأمر على أشخاص معينين ولفترة محدودة ثم ينتهي كل شيء، فالحياة مستمرة، وكما ان من يأخذ مرتباً شهرياً محترماً وفق مبدأ العدل يقول؛ أنه يريد ان يعيش حياة كريمة، فان المحروم من مراتب العلم ومن المال، هو الآخر من حقه العيش حياة كريمة.
ولعل هذا يكون أحد اسرار تقدم الأمم والشعوب، وهو ما أدركه الغربيون حديثاً، فبدأنا نسمع عن أخبار التبرعات من المشاهير والاثرياء لمن يحتاج لعملية جراحية مكلفة، او يحتاج المال لإكمال دراسته الجامعية، وبذلك نفهم أن "الاحسان عامل لتنمية العدل وثوب جميل يظهر به في الواقع الاجتماعي، ومن دونه يتعرض للضربات والتشكيك". (الاخلاق عنوان الايمان ومنطلق التقدم- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).
كيف يحارب الإحسان الفساد؟
لا يكون في روع أحد أن حصول شخص ما على مرتب شهري بالملايين –مثلاً- لقاء جهوده الذهنية ومستواه العلمي ودوره المميز، يثير مشاعر الفقراء ومحدودي الدخل، وكذا بالنسبة لأصحاب الرساميل في السوق ورجال الأعمال والتجار، فتقسيم الارزاق يتأثر بعوامل غيبية سماوية بحكمة خاصة، وايضاً بعوامل مادية وبشرية، ضمن قانون الاسباب في الحياة، وقد كتب وبحث في هذا الأمر العلماء في مؤلفات عدّة، إنما الذي يهمنا أن يكون للإحسان دور ويَد ضاربة في محاربة الفساد عندما ننظم حالة الثراء ثم عملية الانفاق الشخصي، فالملايين التي يحصل عليها العالم والتاجر بشكل عادل لقاء جهودهما واتعابهما، ستوفر لهما المسكن والملبس و وسيلة النقل وغيرها من مستلزمات الحياة الكريمة، ومن المؤكد أن ثمة فائض من هذه الثروة سيكون في رصيد ذلك الشخص، وقد أثبتت التجارب أن "الفائض من أداء الحقوق بالعدل إما يذهب للإصلاح وإما للإفساد" ولا طريق ثالث لهما.
وأروع مثال حيّ يذكره القرآن الكريم لنا من تجربة قارون، ذلك الانسان المؤمن في قوم نبي الله موسى، فقد كان انساناً عادياً كأي فرد من بني اسرائيل، وربما تجرّع الأذى والألم من فرعون في سالف الزمان قبل ظهور النبي موسى وانقاذهم من العذاب والذل والموت، ولكن مشكلته كانت في أمواله التي جمعها واكتنزها لنفسه فتحولت الى ثروة عظيمة، ففي الآيات الكريمة من سورة القصص لم تصدر الادانة من السماء لقارون لأنه صار ثرياً، إنما أسديت له النصائح الجميلة والحكيمة بأن {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}، و {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ}، وأكثر من هذا أن {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا}، أي متاح لك الوقت والمال أن تستمتع بما لديك ولا تحرم نفسك مما وهبه الله لك في الحياة الدنيا، الى جانب توظيفك هذه النعم لضمان الآخرة ورضوان الله –تعالى-. ولكن! الذي حصل هو؛ {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} وهذا منشأ البغي الذي حذر الله قارون منه، فعندما رسخت الصورة الذهنية الخاطئة في ذهنه بأنه هو من أوجد المال ولا دور للسماء فيه، فقد وضع بنفسه الجدار الفاصل بينه وبين الإحسان فكانت عاقبته الإفساد ثم العقاب المهول وخسف الارض من تحته لتبتلعه وكنوزه ويصبح في خبر كان، وعبرة لمن يعتبر.
ثقافة الاحسان مكملة لمبدأ وقانون العدل في المجتمع، فعندما يحصل الانسان على حقّه ومطالبه العادلة فان الخطوة التالية والمكملة لإسعاد نفسه والمحيطين به هي؛ الاحسان الى الآخرين بالمشاركة في مختلف المشاريع التنموية والثقافية، وفي غير ذلك فان أبواب الفساد والإفساد ستكون مفتوحة أمام الاثرياء والميسورين وكل من يقول: "إني آخذ حقّي ولم أسلب شيئاً من أحد"، بينما الحقيقة والتجربة تشير الى عواقب غير منظورة من قبل هؤلاء، وهي التطاول أكثر على المال العام، والبحث أبداً عن المزيد من الامتيازات والارباح على حساب الآخرين، ومهما كلف الأمر.
اضف تعليق