إننا نعيش في عالم غير مفهوم كما يبدو، فأما أننا نضخّم الأمور ونعطيها أكبر من حجمها، وأما أن قتل رموز السلام المختلفة بات أمرا طبيعيا، بل قتل السلام نفسه صار من الأفعال اليومية التي يشارك فيها حتى المتنورين الدارسين ومنهم الطالب الجامعي القائم بالفعل...
للخير رموزه، وللشرّ رموزه أيضا، ومن رموز الخير والسلام الحَمَام ومفردهِ الحمامة، وكثيرا ما أشارت منظمات السلام والساسة والأدباء إلى الحمامة على أنها رمز للسلام، وهي كذلك فعلا، لأنها تتميز بكونها مسالمة لا تؤذي كائنا سواء كان حيوانا أو إنسانا، ونتيجة لهذا الطبع المسالم رُمِزَ من خلالها للأمن والخير والسلام.
في مشهد تصويريّ عابر أو عادي قام أحد طلبة الجامعات الأهلية بقطع رأس حمامة في حرم جامعته، ولم يكتفِ بذلك بل قام بتصوير (الجريمة) وبثَّها على الملأ عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مفتخِرا بفعلتهِ هذه، وكأنه قتل وحشا فتّاكا، وفي الوقت الذي يتوقع فيه أن تصويره سوف يمر مرور الكرام، إلا أنه أثار زوبعة من السخط بين الناس، ليس بين العراقيين وحدهم، بل بين جميع الأقوام والناس الذين شاهدوا فديو قطع رأس الحمامة.
الفاعل طالب جامعي، من المفترَض أن يكون ناضجا في أفكاره، وفي إنسانيته، ويفكر آلاف المرات قبل أن يفعل ما فعل، ومن الغريب حقا هذا الإصرار على (السادية) وإشهارها على الجميع، وقد ظهر الفاعل في إحدى القنوات الفضائية العالمية ليعلن عن اعتذاره وأسفه على ما قام به، لكنه لم يكتف بالاعتذار، بل حاول تبرير فعلته بأن الحمامة مريضة وأنه مان باب الرحمة بها قطع رقبتها بيديه حتى يخلّصها من عذابها.
هناك مثل شعبي يقول (العذر أقبح من الفعل)، وهو ينطبق تماما على اعتذار الطالب الجامعي عمّا قام به من فعل مخالف لأبسط القيم والمشاعر الإنسانية، ولو افترضنا أنه كان صادقا في إقدامه على قطع رأس الحمامة لكي يخلصها من عذاب المرض، فما الذي دفعه لكي يصوّر مشهد (الجريمة)، هل هناك مبرِّر مقبول ومعقول لتصوير المشهد ثم عرضه على مواقع التواصل الاجتماعي؟؟ ما هو الغرض من ذلك؟
هل كان يريد من وراء بث الفيديو أن يقتدي به الآخرون من الشباب، لكي يخلصوا الكائنات من عذابها بقتلها؟؟
إننا نعيش في عالم غير مفهوم كما يبدو، فأما أننا نضخّم الأمور ونعطيها أكبر من حجمها، وأما أن قتل رموز السلام المختلفة بات أمرا طبيعيا، بل قتل السلام نفسه صار من الأفعال اليومية التي يشارك فيها حتى المتنورين الدارسين ومنهم الطالب الجامعي القائم بالفعل.
وهنا لابد من وقفة عند هذه الحادثة التي تبدو بسيطة، الحقيقة يجب أن لا تمرّ مرور الكرام وكأنها فعل عادي وبسيط، لابد من البحث عن جذور ما حدث، لماذا أقدم الفاعل على هذه الفعلة، ما هي الدوافع الاجتماعية والأخلاقية والنفسية التي دفعته إلى ذلك، فهل هو يعيش في بيئة مشجّعة على القتل والعنف والتدمير؟
الإجابة عن ذلك من وجهة نظر شخصية، أن الدافع الأول لارتكاب مثل هذه الأفعال المهشِّمة للسلام، هو البيئة الاجتماعية والفكرية والسياسية التي يعيش فيها الفاعل، بمعنى أدقّ لو أنه يعيش في حاضنة خالية من العنف ورافضة له، لما أقدم على ما فعله، ولو أنه تربّى في بيئة اجتماعية مسالمة لا يمكن أن يعلن فعلته على الملأ.
كلنا نقوم بأفعال مختلفة منها الجيد ومنها الرديء، لكن من طبيعة الإنسان إنه يحاول إخفاء عيوبه أقصى ما يمكن، ولا يعرضها على الناس بنفسه، ولا يفتخر بها، وحين يصل الأمر إلى أننا نفتخر بعيوبنا وأخطائنا، فإن هذه إشارة خطيرة على مستوى العنف الذي تشبّعت به عقولنا وقلوبنا وأنفسنا.
هذه إشارة عنيفة تشبه زلّة اللسان التي تفضح النيّات الحقيقية للقائل والفاعل، ولو أن الطالب عرف مسبقا بحجم الاعتراض عليه والاستياء منه بسبب قطعه لرأس الحمامة، لما نشر الفيديو وكأنه يتفاخر بفعلته المؤلمة الخارجة عن السياقات الإنسانية، إنها بالفعل إشارة على أننا ننحدر نحو (قطع رأس السلام).
كما أننا نطور بيئة عنيفة سواء كنا نعلم بذلك أو لا نعلم، بمعنى نحن نشارك في صناعة مجتمع عنيف بعلمنا أو من دون علمنا، وهذه قضية في غاية الخطورة، ففي الوقت الذي يجب أن يتطور الإنسان وينمو ويتصاعد في تحضّره فكرا وسلوكا، نجد أننا في ظل مشاهد تمجّد العنف وتسعى لتبريره.
بعضهم ينظر على هذه الحادثة على أنها فردية ولا علاقة لها بالمجتمع، لكن هذا القول أو الرأي كمن يدفن رأسه في الرمال ويترك جسده مكشوفا لتفادي الخطر وهو ما تقوم به النعامة، إننا في الحقيقة عندما نحاول تمرير هذه الحادثة على أنها فعل فردي، إنما ندس رؤوسنا في الرمال، وعلينا أن نقرّ بأن خطر التربية العنيفة أخذ يسحق إنسانيتنا، وأننا نطور بيئة عنيفة غير مسالمة سواء عرفنا بذلك أو لم نعرف.
دعوة إلى من يهمه الأمر، لا تتركوا هذه الحادثة التي تبدو بسيطة وعادية، لا تتركوها دونما تفحّص ومراجعة وإيغال في أسبابها ومسبباتها، فبعض الأمراض الخطيرة لا تعطيك أعراضا كبيرة، لذا من الواجب دراسة ظاهرة العنف بشكل واقعي وتقديم ما يلزم من خطط لمكافحة العنف الذي يأخذ بالتصاعد في بيئتنا الاجتماعية.
اضف تعليق