منفعة المستهلك قد تكون إلى جوار تكاليف الإنتاج أحياناً طريقة لتحديد جانب العرض وبأسلوب موضوعي قابل للقياس الكمي، عبر مقياسية النقود مثلاً، وليس لتحديد جانب الطلب فقط، إذ ليس المنتجون بالضرورة حيوانات اقتصادية أنانية جشعة لا تستهدف إلا منافعهم هم والأرباح، بل أن كثيراً منهم إنسان اقتصادي...
وخلاصة الرأي الذي توصّلنا إليه في تحليل العوامل التي يقوم عبرها الناس في عالم الإثبات(1) بتحديد القيم التبادلية للأشياء، (وفي تحديد قيمة المتع التي تشتريها النقود كذلك)، هو أن هذا التحديد هو من ولائد عملية ـ مركبة ـ معقدة يقوم بها الناس، بمزيج من الوعي والشعور واللاشعور والحدس، استناداً إلى عوامل متعددة تتزاحم فيما بينها، وتكون المحصلة بعد الكسر والانكسار بينها هي تحديد القيمة التبادلية (وتحديد قيمة المنفعة)، والعوامل هي:
* مزيج من منفعة المنتِج والمستهلِك (أو البائع والمشتري)، كما يراها كل منهما، ونقطة التوازن بينهما، إضافةً إلى تفاعل متعة (أو رغبة، حسب العلامة الحلي) المنتج والمستهلك، كما يراها الطرفان، وبشكل عام: عملية التعادل والترجيح بين منافع ومضار كل منتج بما يشمل مضار خسارة البديل، كل ذلك إضافة إلى سائر العوامل العشرين التي سيجدها القارئ الكريم في مسيرته أثناء مطالعة الصفحات الآتية.
* الاستصحاب الماضوي، فإن له دوراً في تحديد القيم التبادلية إلى فترة ما وفي بعض الصور، إضافة إلى الاستصحاب المستقبلي(2) فإن له دوراً كذلك، والذي يعني، بعبارة مبسطة، الظن باستمرار القيمة التبادلية المالية في عمود الزمن الآتي على ما هي عليه في الحال الحاضر، ولكن بعد الكسر والانكسار مع التوقعات المستقبلية للناس عن مدى المنفعة والمتعة أو المضرة والألم التي ستتوافر في السلعة أو الخدمة، وعن حركات قيمها الاحتمالية.
* إستراتيجية الخطأ والصواب، التي يتبعها الناس شعورياً ولا شعورياً لتصحيح الأسعار. وهذه الإستراتيجية ترفض منطق (اليد الخفية) والماورائية التي قيل إنها تتحكم في محددات القيمة التبادلية بشكل مطلق، فإنها وإن صحت ولكن ذلك إنما هو إلى حد ما، ولذا فإننا كثيراً ما نشهد انحرافاً للأسواق عن المتوسط الموضوعي وعن المعدل المعياري باحتكارٍ أو احتكارٍ مضاد أو بسلسلة من التوهمات عن حركات الأسعار، والتوقعات الصائبة وغير الصائبة أو غير ذلك، ولذا فإن عامل (اليد الخفية) نرى له دوراً ما، ولكنه ليس دوراً نهائياً ولا جبرياً قسرياً.
* الحدس في المزيج الناتج من تفاعل العوامل العشرين الماضية والآتية، بما فيها العرض والطلب وتكلفة المخاطرة وغير ذلك، والحدس في المعدل والمتوسط العام لتداخل كافة تلك العوامل.
وسيكون محور البحث في هذا الكتاب هو النقطة الأولى بما تحتضنه من شتى العوامل، وأما النقاط الأخرى (الاستصحاب و...) فلنا حديث تفصيلي حولها يترك لمظانّه إن شاء الله تعالى، فنقول:
عند دراسة مستفيضة وتحليل دقيق لواقع القيمة التبادلية سنجد؛ فيما نرى، أنها تتولّد من الجهات الحقيقية والاعتبارية(3) التالية:
أ. المنفعة والقيمة الاستعمالية
أولاً: (المنفعة) أو (الفائدة) الكامنة في الشيء، بمعنى: أن القيمة التبادلية تتولد من المواد والعناصر الحاملة للمنفعة(4) والموجودة في الشيء الذي تجري عليه عملية التبادل، وهي المسماة بالقيمة الاستعمالية، (والمنفعة "utility" لا تعني الفائدة "usefulness" كما يفهمها المراقب ـ فما هو مفيد بالنسبة للاقتصادي هو أي شيء يحقق المتعة "piacere" أو يجلب الرفاه "felicita". وهنا تدخل في الاعتبار عناصر الموضة والهيبة والإيثار)(5)، وهي التي سميت بنظرية القيمة المستمدة من المنفعة "Utility theory of value"، فإن الناس لا يشترون (حسب تصورهم) الأشياء عبثاً أو لمجرد أن العامل أو المزارع أو المستثمر بذل جهداً عضلياً وعصبياً لإنتاجها أو لمجرد أنه عمل لمدة أيام أو ساعات لإيجادها أو تطويرها، بل إنهم يشترونها (ويوقعون عملية التبادل عليها) لما يجدون فيها، باعتقادهم، من المنافع الاستعمالية لهم أو ـ بوجه آخر ـ يشترونها لمنافعها الحقيقية، فهم يشترون السيارة لمنفعة النقل التي يجدونها فيها، لا لأن(6) العمال في الشركة بذلوا جهداً أو صرفوا ساعات طوالاً في إنتاجها، كما يشترون الفواكه والحنطة واللحم والملابس وغيرها لما يجدون فيها من الفوائد والمنافع.. وهكذا يقدمون المبالغ للمعلم والطبيب والمهندس والبنّاء والصبّاغ، نظراً للفائدة التي يجنونها من خدماتهم، لا لأن / أو لمجرد أن المعلم أو الطبيب أو المهندس أو البنّاء أو الصبّاغ بذل وقتاً وجهداً.
وقد أصبحت النفعية "utilitarianism" أو المذهب النفعي من أهم الأسس التي طرحها علماء الاقتصاد الكلاسيكي في مباحث الاقتصاد الجزئي والتي جرى تشبيكها بنظرية القيمة.
وذلك كله خلافاً لماركس الذي توهم أن القيمة التبادلية هي وليدة فقط للعمل المنتج للسلعة، أي لقوة العمل، أو لمتوسط وقت العمل، أو لمتوسط كمية العمل، والأول هو ما ارتآه ماركس ظاهراً وإن كان إنجلز قد فهم المعنى الثاني(7).
ومن الناحية التاريخية فـ(إن نظرية السعر "الذاتية" أو القائمة على "المنفعة" هي التي سادت إلى أن فرض نفسه تأثير العمل "Wealth of Nations"، وبخاصة تأثير كتاب ريكاردو "Principles"، فقد سادت تلك النظرية في القارة حتى بعد عام 1776، وثمة خط متصل من التطور ما بين جالياني وج.ب. ساي. وقد ساهم كينيه وبيكاريا وتورجو وفيري Verri""، وكونديلاك "Condillac"(8)، وكتّاب آخرون أقل بروزاً، في إرساء هذا الخط بصورة راسخة أكثر وأكثر، إذ ربطوا جميعاً السعر وآلية التسعير مباشرة بما تصوروا أنه الهدف الأساسي للنشاط الاقتصادي وهو إشباع الحاجات. كما قبلوا جميعاً بتعريف كانتيلون للثروة "richesse" ليس فقط كعبارة يتم تناسيها ما أن يُشار إليها أو يتم تذكرها فقط للتوصية بالسياسات المفضلة لدى المستهلكين كما في حالة آ. سميث، بل كنقطة انطلاق لتحليل السعر. وعلاوة على ذلك، ولديهم جميعهم، كانت ظاهرة السعر في صلب حساب تفاضل اللذة والألم، بالصورة التي كانت عليها لدى جيفونس بالضبط، فمن هذه الناحية كانوا كلهم بنثاميين غريزياً "by anticipation" وكانوا أنصاراً لبنثاميين أكثر قوةً من أنصار بنثام من الاقتصاديين الإنجليز. وهكذا، فهم لم يكونوا فقط الرواد للكتاب "الذاتيين" من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بل إنهم أيضاً طبعوا بطابعهم الاتحاد سيء الحظ بين نظرية القيمة والمذهب النفعي "utilitarianism"، والذي أثبت أنه اتحاد مُربك بعد قرن من الزمن)(9).
وقد بنى عالم الاقتصاد الفرنسي جون ساي (1737 ـ 1832م) على نظرية القيمة المستمدة من المنفعة، إذ يقول ساي: ("بعد أن سلطت الضوء على أهم التحسينات والتطويرات التي أحدثها الدكتور سميث في علم الاقتصاد السياسي، ربما سيكون من المفيد أيضاً أن أشير إلى عدد من النقاط التي لم يكن على صواب فيها. ولعل أهمها فكرته القائلة بأن القيمة مستمدة من العمل لوحده، إذ أرى بأن طرحه هذا غير صائب".
ويشرح كيف أن القيمة المعادلة (السعر) "Exchangeable Value" لأي سلعة أو خدمة تستند بالكامل إلى قيمة استخدامها (المنفعة)، إذ يقول: "بالنسبة للإنسان، ترتبط قيمة الأشياء بمدى الفائدة التي تقدمها له، أي بقدرتها على تلبية الاحتياجات المتنوعة للبشر، وهو ما أطلقت عليه مصطلح "المنفعة" التي أراها الأساس في تحديد قيمة الأشياء، والتي بدورها تشكل الثروة. وبالرغم من أن السعر هو مقياس القيمة التي تعكس بدورها منفعة الأشياء، إلا أن هذه العلاقة غير قابلة للعكس، أي أن القيام برفع سعر غرض معيّن سيؤدي(10) إلى رفع مستوى منفعته. وبشكل عام تعبّر القيمة المعادلة ـ أو السعر ـ عن مدى المنفعة التي ينطوي عليها شيء معيّن")(11).
وبعبارة أخرى: العلاقة هي: المنفعة ← القيمة ← السعر، فالأول يولّد الثاني، والثاني يولّد الثالث، وليس بالعكس أي: السعر ← المنفعة ← القيمة / أو السعر ← القيمة ← المنفعة.
مناقشة نظرية بنتام: المنفعة كمحدد لجانب الطلب
وأما جيرمي بنتام، فلقد (كانت المنفعة عند بنتام تبدو طريقة لتحديد جانب الطلب في السوق بأسلوب موضوعي وقابل للقياس الكمي، وهو الجانب الذي لم يتناوله آدم سميث والاقتصاديون الكلاسيكيون إلا نادراً، أما جانب العرض فيقوم على أساس تكاليف الإنتاج ومن ثمّ له واقع مادي، أما المنفعة والطلب ـ على أية حال ـ فهما من الأمور الشخصية التي تخضع لما يقدره عقل الشخص)(12).
المنفعة قد تحدد جانب العرض أيضاً
ولكن ذلك وإن صح إلى حد ما، لكنه لا يصح دائماً، فإن (المنفعة) أي منفعة المستهلك قد تكون إلى جوار تكاليف الإنتاج أحياناً طريقة لتحديد جانب العرض وبأسلوب موضوعي قابل للقياس الكمي، عبر مقياسية النقود مثلاً، وليس لتحديد جانب الطلب فقط، إذ ليس المنتجون بالضرورة حيوانات اقتصادية أنانية جشعة لا تستهدف إلا منافعهم هم والأرباح، بل أن كثيراً منهم، ولا ريب، إنسان ـ اقتصادي، لذلك فإنهم لا يضطلعون بإنتاج أية سلعة اقتصادية انسياقاً وراء معادلات تكاليف الإنتاج، ولمجرد أن المستهلك يجد فيها منفعته وإشباع حاجاته، ولذا لا يقومون بإنتاج المخدرات أو الأسلحة الفتاكة أو الخمور مثلاً، بل قد يدفعهم للإنتاج (وهذا هو جانب العرض الذي حفزته منفعة المستهلك) ما يرونه من المنفعة للمستهلك في منتَج معين، وإن كانت أرباحهم فيه أقل من إنتاج بعض البدائل الأخرى ذات المردود العالي، ولكن من غير أن يرى المنتِج فيها ذلك المقدار من المنفعة للمستهلك أو قد لا يرى فيها منفعة أصلاً.
ثم إنه إذا كان الطلب عليه (المنتَج ذي المنفعة الأكثر) قليلاً، فإنهم حينئذٍ ينتهجون إحدى إستراتيجيتين:
الأولى: إيجاد الحافز في المستهلك ليشتري عبر إقناعه بأن ذلك يوفر إشباعاً لإحدى حاجاته، ثم إنه إن لم يكن يحمل بنظر المستهلك، منفعة استعمالية موضوعية، فقد يقنعه بأنها تشكل إشباعاً لحاجة عرضية، كمسايرة الموضة مثلاً، ولكن هذا يشكل رجوعاً إلى المنفعة في جانب الطلب، وإن كان الباعث عليها المنفعة كما يراها جانب العرض، فتدبر.
الثانية: أن يخفضوا الأسعار ويبيعوا بأدنى الأرباح أو بلا أرباح أو حتى بخسائر، لما يحملونه في تصورهم، من رسالة لترويج هذه السلعة أو الخدمة.
ومن الواضح أن عملهم يبقى عملاً اقتصادياً وتجارياً في الصورة الأولى عكس الصورة الأخيرة(13)، وأفضل مثال على ذلك: بعض أنواع الأدوية واللقاحات التي يجد فيها المنتج، وقد يكون هو الحكومة، علاجاً من دون أن يجد فيها المستهلك تلك الفائدة، إذ قد يرى المستهلك المنفعة الأكبر في السلعة المنافسة (دواء أو لقاح آخر) أو حتى قد يشك بنوايا المنتجين، وهنا، فإن المنتج لإيمانه بوجود المنفعة في منتَجِه للمستهلك، يحفّزه ذلك على زيادة العرض وخفض الأسعار كي يدفع ذلك أولئك للطلب.
مثال آخر: (الكتب) المدعومة التي تستهدف فئات مترددة أو معارضة، من أديان أو مذاهب أو تيارات أخرى.
فهذا كله من جهة، ومن جهة أخرى: فإن (تكاليف الإنتاج) قد تحدد جانب الطلب أيضاً (وليس أنها التي تحدد جانب العرض فقط)، وذلك إذا نقلنا الكلام إلى مستوى الاقتصاد الكلي، وعلى سبيل المثال: فإن الحكومة قد تقوم بتحديد نوعية مشترياتها وكمياتها على حسب ما يقدره خبراؤها من تكاليف الإنتاج التي ستتجشمها المؤسسات الإنتاجية في قطاع الزراعة أو الصناعة أو غيرها، وذلك بحسب ما ترى أنه يخدم عملية (التنمية الاقتصادية)، وعلى هذا فقد تطلب كميات أكبر، مما منفعته لها أقل وأسعاره أغلى، لأنه يخدم أهداف التنمية المستدامة في البلد، أو يخفض نسبة البطالة أو التضخم، مع كون تكاليفه هي الأكثر أو بسبب كون تكاليفه هي الأكثر.
إضافة إلى ذلك، فإن (المنفعة الواقعية) ليست من الأمور الشخصية التي تخضع لما يقدره عقل الشخص، فإن الواقع لا يتغير بتقديرات عقل الشخص أبداً، نعم المنفعة المتوهمة هي كذلك.
ولكن المهم في بنتام أنه حاول أن يكتشف مقياساً للمنفعة (المتعة والألم)، حيث إن المتعة والألم لا ينضبطان لكونهما من الأمور الشخصية لا الموضوعية، لذلك انتقل إلى مقياسية النقود (فإن بنتام قد أسر خيال الاقتصاديين وتفضيلهم للموضوعية باستخدام النقود مقياساً للمتعة والألم، وكانت النظرة تبشيراً بمدارس الحديين "Marginalists" في سبعينيات القرن التاسع عشر (1870)، التي استمرت في تعليم الاقتصاديين الشبان.
ومع ذلك، فإن هذا الابتكار تم نقده بتبشير آخر، وهو أن النقود كانت تعني أشياء مختلفة لمختلف الأشخاص، تبعاً لما يملكون من مال، فإن مبلغاً يعادل 15 جنيهاً إسترلينياً قد لا يعني شيئاً لرجل غني، بينما قد يرفع فقيراً إلى درجة متواضعة من الراحة، وهذه الفكرة ـ بأن كل وحدة إضافية من النقود تقدم متعةً أقل عن التي قبلها ـ كانت هي التي أصبحت المبدأ لقانون تناقص المنفعة الحدية للنقود، وهكذا انتهى خيطا علم اقتصاد بنتام إلى عقدة: كيف يمكن تحديد قيم المتع التي تشتريها الجنيهات البريطانية، إذا كانت الجنيهات ذاتها تقيس أنواعاً مختلفة من الإشباع؟
وأدى هذا اللغز الصغير إلى استمرار وزيادة صعوبة بناء نظرية عن الطلب، وكما سنرى، فإن هذه الصعوبة الخاصة تم التغلب عليها بمجرد توقف الاقتصاديين عن السؤال! ولم يقدم الاقتصاديون الكلاسيكيون حلاً للمشكلة، إلا أن الأفكار الخاصة بالمنفعة الشخصية غير الموضوعية والمنفعة الحدية للنقود أصبحتا من الأمور الرئيسية في ما بعد للاقتصاديين الحديين "Marginalists")(14).
وحول النقود سنعقد فصلاً خاصاً بل مجلداً خاصاً نتطرق لمختلف شؤونه بما في ذلك الحل الذي نتصوره لهذه المعضلة، وأما ههنا وعن رأي بنتام في المتعة والألم والمنفعة فنقول بشكل موجز:
نقد نظرية بنتام في المتعة والألم والمنفعة
إن الخطأ الذي وقع فيه بنتام هو اعتماد (المنفعة) كمقياس وحيد للقيمة التبادلية، ثم اعتماد (المتعة والألم) كمقياس للمنفعة، ثم اعتماد النقود مقياساً للمتعة والألم، لكن هذا المبنى كله يعاني من إشكالين جوهريين وهما:
أ. ليست المنفعة المقياس الوحيد للقيمة التبادلية، بل هي إحدى المقاييس إلى جوار أكثر من عشر عوامل أخرى، والتي تحدد بمجموعها القيمة التبادلية، وهذا هو الإشكال العام الذي يلاحقه هذا الفصل من الكتاب منذ البداية.
ب. ليست المتعة هي مقياس المنفعة، إذ النسبة بينهما عموم من وجه، وعموماً فإن المنفعة الواقعية التي تعبر عن القيمة الاستعمالية، لها دور أساس في (القيمة التبادلية) للسلع والخدمات، بنظر الناس في كافة الأسواق، والمنفعة أمر واقعي موضوعي، أما المتعة فأمر ذاتي شخصي وليس كل ما يتمتع به الشخص نافعاً له، كما أنه ليس كل نافع مما يتمتع به الشخص، إذ قد تكون المنفعة الواقعية موجِدة للمتعة وقد تكون موجِدة للألم، وأما لو عممنا المتعة إلى كل متعة عقلية أو نفسية أو جسمية، حقيقية أو متوهمة، فإنها تتجرد عن علاقتها بالمنفعة الواقعية، إذ قد يكون الضار والمؤلم موجِداً للمتعة بهذا المعنى، هذا.
المنفعة الحقيقية أو المتوهمة؟
ولكي يكتمل التصور عن أركان نظرية المنفعة وما يحيط بها، لابد أن نضيف:
أن المنفعة قد تكون منفعة حقيقية، وقد تكون منفعة متوهمة، فقد يشتري الناس الملابس الشتوية الثقيلة (ويوقعون عليها عملية التبادل) نظراً لأنهم يتوقعون أن يكون الشتاء القادم قارصاً، ثم لا يكون واقع الحال كذلك، فلا ينتفعون بها أصلاً، وهنا نجد أن الباعث للمبادلة (وإجراء عملية التبادل) هو المنفعة المتوهمة. وقد يدفعون أموالاً لطبيب لكنه يخطأ في العلاج، بل قد يجرون مبادلة بين ما بحوزتهم من أموال أو بضائع وبين سلع ضارة كالأفيون أو خدمات ضارة كالسحر، وهم لا ينطلقون في ذلك كله من أن منتج الأفيون أو الساحر قد بذل وقتاً وجهداً وعملاً في إنتاج الأفيون أو السحر أو إنجازه، بل ينطلقون مما يعتقدون أنه نافع لهم بوجه من الوجوه، وإن لم يكن نافعاً واقعاً أو كان حتى ضاراً بهم، لكنهم توهّموا غيره ثم استبان لهم عكسه.
وبذلك كله يظهر أن (المنفعة المتوهمة) لا تساوي بالضرورة المنفعة النسبية التي تختلف باختلاف الميول والرغبات، إذ المنفعة النسبية هي حقيقية لكنها تختلف باختلاف الأشخاص، أما المتوهمة فليست حقيقية أبداً، ولذا لو علم المنتفع بالمنفعة المتوهمة أنها وهمية لتجنبها، أما المنتفع بالمنفعة النسبية لو علم بأنها نسبية فإنه سيبقى متشبثاً بها.
وبهذا يظهر وجه الإشكال على ما ذكره بعض العلماء بقوله: (ثانياً: إن منفعة كلِّ شيء بحسبه. ثالثاً: إن المنفعة أمر نسبي يختلف باختلاف الميول والرغبات)(15).
إذ النقطة الثانية صحيحة، لكن النقطة الثالثة لا إطلاق لها، إذ قد تكون المنفعة مطلقة لا تختلف باختلاف الميول والرغبات، كمنفعة الماء والنوم وبعض الأطعمة الأساسية كالخبز مثلاً، كما أن بعض المنافع متوهمة وليست لها قيمة مطلقة ولا نسبية، بل هي متوهمة فقط.
اضف تعليق