لا تختلف عملية بناء المثقف عن سواها، فكما يتم بناء أي ذات أو كيان أو تجربة عملية في الجانبين المادي والفكري، كذلك ينبغي التصدي لعملية بناء المثقف، وفق خطوات مدروسة، على أننا نتفق بأن البناء ينطوي على مسارين، الأول مسار ذاتي للبناء الثقافي، والثاني مسار خارجي مساند ومعاضد له، هذا يعني أن المثقف نفسه معني في بناء ذاته الثقافية، ومن حقه أن يحصل على المساعدة من أطراف خارجية لتحقيق هدف بناء المثقف النموذج أو الناجح.
ويرى أصحاب الشأن في هذا المجال، أن عملية بناء المثقف فكرية أكثر من كونها مادية، ولكن هذا الرأي لا يلغي تنقية سلوك المثقف من بعض الشوائب، فإلى جانب بناء الفكر ينبغي تطوير السلوك للمثقفين، والمعني هنا ببناء المثقف لنفسه، هو البحث الجدي في قضية تجديد الفكر وتحديثه، والمواكبة الفعلية للمستجدات الثقافية على مستوى العالم، ابتداءً، وصعودا من المحلية، الى العربية، ثم الانتشار في العالم عموما.
بناء المجتمع الواعي
ويرى المختصون أن هذه الخطوات في البناء الثقافي المنهجي، سوف تُسهم بصنع مثقف متكامل، ويمكن أن يكون نموذجا جيدا للآخرين، وهنا تحديدا يكمن الهدف من صناعة المثقف، بمعنى أن الهدف الأول والأخير، هو التأثير بالشرائح والأفراد الأقل وعيا من غيرهم، وصولا الى بناء المجتمع الواعي، علما أن قضية البناء الثقافي لن تتوقف عند هذه الحدود فقط، أي لا يتوقف الأمر عند صناعة المثقف فحسب، وإنما يتطور البناء ليشمل الثقافة نفسها.
لأن البناء المنهجي للمثقف، وفق أفكار متجددة، وتطوير الشخصيةً المبتكرة، سيمنح الثقافة فرصا أفضل للتحول من طابعها التقليدي الشكلي، الى الجوهرية التي توفر للثقافة، دورا فعليا في تنظيم أنساق الفكر والتطبيق معا، ما يؤدي بالنتيجة الى دور ثقافي فاعل ومؤثر في الواقع المجتمعي، وقد بدأ هذا الدور في اللحظة التي قرر فيها المثقف، أن يبني نفسه بالطرائق الصحيحة التي تنقله من الشكلية الفارغة المدّعية، الى الجوهرية الممتلئة الفاعلة، ويظهر جليا هنا أن الدور الذاتي للمثقف في التطوير يحتل الصدارة على سواه.
وعندما يأتي الحديث عن المثقف والثقافة في العراق، فإننا في ظل حيثيات المرحلة الراهنة وتعقيداتها ومجرياتها المتداخلة، نحتاج المثقف النموذج، وكذلك نحن بحاجة الى الثقافة النموذجية التي تسهم بقوة في البناء المجتمعي، وبهذا المعنى نحن نحتاج الى الثقافة الجوهرية، ولكنها لا يمكن أن تتحقق من دون أن يسعى المثقفون بجدية نحو الانتقال من مرحلة الادّعاء الشكلي للثقافة، الى مرحلة الفكر والفعل الثقافي الجوهري، وهذه مرحلة لم تصل إليها الثقافة العراقية ولا المثقف العراقي بعد.
البناء الذاتي للمثقف
إننا يمكن أن نستخلص من تجارب الشعوب والأمم الأخرى، كيف أستطاع المثقف أن يبني نفسه بنجاح، وما مدى تأثير البناء الذاتي للمثقف على الثقافة، وكيف تمكن المثقفون من تحقيق التغيير الإيجابي في المجتمع ومفاصل الدولة كافة، كما حدث ذلك على سبيل المثال في فرنسا عندما شرع ديغول باعتماد ثقافة ناجحة نموذجية اختار لها قادة مثقفين حينما عين أحد الكتاب الروائيين وزيرا للثقافة، ومدّ يد العون للمثقف.
فصارت الثقافة في فرنسا نموذجا للشعب كله، وصار المثقفون الفرنسيون في حينها عنوانا للتطور والازدهار، أما في العراق أو في الدول العربية، فالواقع الراهن يشير الى قلة تأثير المثقف النموذج، وضعف دور الثقافة بخصوص التأثير الفعلي في الأنشطة المجتمعية الفعلية المتنوعة، مع حضورها وتأثيرها الجزئي في هذا الجانب أو ذاك.
في حين ينبغي أن يكون هناك تأثير كبير ومهم للمثقف والثقافة في فرض أنماط سلوكيات وأفكار محدثة، يمارسها المجتمع بعد أن يؤمن ويقتنع بها، لكننا كما هو واضح، لم نصل بعد الى الثقافة المكتملة، التي سيكون بمقدورها فرض طابعها الكلي على الحراك المجتمعي أجمع، ويرجع هذا – كما هو واضح- الى ضعف الأداة الأولى للثقافة، وأعني به المثقف الذي لا يزال متقاطعا مع الجوهرية، بسبب ميوله الى الشكلي البسيط، الذي لا يتطلب جهدا بحثيا معمّقا، وسعيا عمليا منهجيا، ومواكبة متواصلة لما يستجد في ثقافات العالم بصورة عامة.
لهذا يحتاج العراقيون في هذه المرحلة وربما الدول العربية كلها، الى نموذج المثقف الناجح، القادر على بلورة رؤى وأفكار ثقافية مبتكرة، يمكنها رفد الثقافة القائمة بالتجديد، ودفعها نحو التطور والتأثير المؤثر عمليا وسلوكيا في الفرد والمجتمع، وبالتالي القدرة على المشاركة في بناء الدولة، لكننا كما يشير الواقع، لا نملك المثقف المجدد، ولا الثقافة المبتكرة.
حالة الاجترار الثقافي
لذلك يوجد لدينا مثقفون يعانون من الخمول، وحالة الاجترار والتقليد الثقافي لغيرهم، أي للثقافات الأخرى، لذلك فإن هذا التعاضد بين مثقفين كسالى، وبين ثقافة تستلطف التقليد، يمثل العقبة الكأداء التي تقف في طريق العرب، لبناء ثقافة الجوهر، وإشاعة نمط وحضور المثقف الجوهري الفاعل.
إذاُ من غير المستغرَب أن يتأثر الشارع العراقي والعربي بسرعة مذهلة بشكليات الثقافات الوافدة، من دون الغوص في مضامينها، والإفادة من جودتها وسماتها الإنسانية، إذ سرعان ما تظهر الشكليات الوافدة على مظهر المواطن العربي وسلوكه بحجة تجديد اللفظ والسلوك معا، وهو عذر لا يستند الى دعامة حقيقية، لأن الثقافة الغربية على سبيل المثال، لم تكتف قط بإنتاج الغرائب الشكلية في السلوك البشري، بل تصدرت الجوهرية الكثير مما أنتجته تلك الثقافة وقدمته لنفسها وللآخر على حد سواء.
علما نحن لا نعني الانغلاق من بعيد أو قريب، ولكن هناك حدود للتأثير، بل هناك خط احمر لا يصح عبوره، الى درجة الذوبان في الثقافة الأخرى بحجة الإطلاع وما شابه، لذلك فإن تآزر شكلية الثقافة والمثقف، والانبهار بالآخر حد التقليد الشكلي الأعمى، يؤدي بدوره الى موت الابتكار، أو البقاء في حالة سبات ثقافي، والاكتفاء بما تدرّه علينا الثقافات الأخرى من سلوكيات سطحية لا تتسق وجذورنا السلوكية الراسخة.
إذن نحن بحاجة الى ثقافة العمق، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال المثقف النموذج، القادر على تطوير الذات الثقافة، ورفد الثقافة العراقية بالابتكار الدائم والتجديد، مع أهمية التأثير في الوسط الاجتماعي المستهدَف، فهو أمر ممكن جدا، في حالة وعي المثقف لدوره في بناء الذات والمجتمع والدولة معاً.
اضف تعليق