q

لسنا الوحيدون في العالم، نواجه أزمة خانقة ومستعصية، مثل أزمة الكهرباء لدينا، ففي العالم أزمات حقيقية حادّة، مثل أزمة التلوث البيئي أو أزمة السكن أو البطالة أو المياه، بينما في العراق، كما معظم بلادنا الاسلامية، تتخبط الشعوب في أزمات مفتعلة، مثل أزمة الكهرباء أو ازمة المواد الانشائية، او أزمة المواصلات وغيرها من العناوين التي بإمكان الانسان – المواطن والمسؤول – ان يتلافاها بسهولة، بخلاف الازمات التي تكون خارجة عن ارادة الانسان العادي، لما لها من طابع دولي واطراف متعددة. لذا نجد مثل هكذا ازمات، مع تعقيدها وابعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فان الطريق الى حلها يكون ممكناً، سواءً من خلال التفاوض والمشاركة والتعاون. بينما الموجود عندنا؛ الجري في دوامة مفرغة لا طائل منها، ولا ينتج هذا الجري المرهق، سوى تكريس حالات سلبية في المجتمع مثل عدم الثقة واليأس والاحباط والتسقيط، وبالنتيجة فالمشكلة، مع بساطتها وحجمها المحدود، تبقى على حالها تستفحل وتأخذ حجماً اكبر مما ينبغي وتترك أثرها على حياة الناس بشكل غريب.

تسليط الضوء على الافرازات السلبية

عندما يأتي الحديث عن أزمة الكهرباء في العراق، سواءً من خلال وسائل الاعلام، او على صعيد الشارع العام، تقفز المفردات العاطفية بقوة الى الواجهة، فهناك من يعبر عن مشاعره الانسانية إزاء الاطفال الصغار والنساء الحوامل او الرجال الطاعنين في السنّ والشريحة الفقيرة التي تكتوي قبل غيرها بنار هذه الازمة، وتحديداً في هكذا أيام من الصيف اللاهب. علماً أن الكلام في هذا المجال، لا شك في صحته و واقعيته، ايضاً المشاعر التي ينتفض بها الكثير إزاء المسؤولين في الدولة الذين يتحملون – قطعاً- جزءاً كبيراً من مسؤولية وجود هذه الازمة وبقائها.

هذه المشاعر الجياشة وحتى العنيفة منها، لن تسهم في ايجاد حل او اكثر للأزمة، اذا لم نقل انها تكرس وجودها لأسباب سنأتي على ذكرها لاحقاً، لان المعروف أن الازمة التي يشترك في ايجادها اطراف متعددون، فان حلها يتطلب تدخل هذه الاطراف ايضاً مع اطراف أخرى، بمعنى أن حل مشكلة الكهرباء، ليست مفتاحاً سحرياً في جيب وزير الكهرباء ولا حتى في جيب رئيس الوزراء نفسه، او الوزراء المعنيين، وهؤلاء يعبرون عن هذه الحقيقة بطرقهم الخاصة عندما يظهرون امام الناس في البرلمان، وهم يتحدثون عن الازمة، فنلاحظ كل وزير معني بالأزمة، مثل الكهرباء والمالية والنفط، يصوّر للناس انه خارج إطار الازمة، وانها تدور في مكان آخر. حتى الحديث الشائع بين الناس حول انتهاك المساواة في التجهيز بين بيوت الناس العاديين وبيوت المسؤولين او مناطق عملهم المحصنة والخاصة في بغداد والمحافظات. كل هذه وغيرها من الافرازات المحتملة للأزمة، تشكل إثارات تدور في دوامة واحدة لا تتوقف عند حد، فالكلام عن تمتع النواب والوزراء والمسؤولين الكبار في الدولة بالكهرباء على مدار الساعة، وخلال العشر سنوات الماضية، هل غيّر من الازمة شيء؟ وهل استجاب احد المسؤولين لنداءات الشعب المتكررة بعدم التجاوز على حقوقهم وحقوق اطفالهم؟

ويمكن القول؛ ان قرار رئيس الوزراء الاخير حول شمول بيوت هؤلاء "المسؤولين" بالقطع المبرمج، يأتي – بالحقيقة- ضمن اجراءاته العملية الحاسمة لمعالجة مجموعة من الازمات العالقة في الدولة وبشكل عملي، وحتى هذه لن تكن لها المدخلية المباشرة نحو حل أزمة الكهرباء، مع تأكيدنا على تأثير الرأي العام في القرار الحكومي، والآثار التي تتركها التظاهرات الجماهيرية على الأداء الحكومي ودفعها المسؤولين للاسراع في متابعة الازمة والبحث الجدّي عن الحلول. لكن تبقى التظاهرات عبارة عن رأي سياسي – اجتماعي للمواطنين، تطلق فيها الشعارات والمطالب المشروعة في أجواء سلمية، وبعد فترة معينة ينتهي كل شيء، وربما يكون ختامها بعض الوعود من المحافظ هنا او المسؤول هناك.

ان طريقة التعامل مع أزمة الكهرباء، بحد ذاتها من قبل المتضررين، وهم شرائح المجتمع المختلفة، ومن يقف الى جانبهم من مؤسسات مجتمع مدني ودوائر ضغط في الدولة مثل الاحزاب والتجار والنخبة المتعلمة والمثقفة، جميعهم أسهموا بشكل او بآخر في تكريس واقع قطع الكهرباء في العراق، وتحويله الى أمر مستساغ، عندما يكون عبارة عن هموم وآهات يتم التنفيس عنها بوسائل متعددة. أما المسؤول عن هذا الواقع، وهو إما وزير او مدير او نائب او حتى رئيس الدولة، فهم اليوم في نظر معظم الناس، أشخاص فاشلون لا يتأمل منهم الخير، ولابد ان يرحلوا من مناصبهم!.

جوهر الازمة في جدار عدم الثقة

ان أزمة حقيقية ابتلي بها العراق منذ تشكيل النظام السياسي الجديد عام 2003، ألقت بظلالها على أزمات ومشاكل بسيطة، منها أزمة الكهرباء، وهي أزمة عدم الثقة بين المواطن والمسؤول، وهذه تمثل اشكالية قوية في النظام السياسي لأي بلد في العالم، بل وتثير علامات سؤال قوية حول مصداقيته، فمشاعر الشك والريبة يتم تبادلها بين عامة الشعب العراقي، وبين شريحة واسعة من المسؤولين – إن لم نقل جميعهم- فالناس يتهمون المسؤولين على نطاق واسع، بالاستئثار بالسلطة والتلاعب بالمال العام ثم الاختلاس وحتى الخيانة، بينما يتهم المسؤولون، الشعب العراقي بان الغالبية فيه، بانه كسول ومسرف و أناني، وغيرها من الصفات غير الحميدة. لذا فان أي ازمة تندلع في العراق، سواء في الكهرباء او الصحة او التعليم او الحصة التموينية او الامن وغيرها، نلاحظ أصابع الاتهام بالاختلاس واللصوصية توجه الى المسؤولين المعنيين. وإن لم يصرّح المسؤولون أمام الاعلام، فانهم في غرفهم الخاصة يحملون الناس جزءاً من مسؤولية هذه الازمات، لاسيما الكهرباء، مثلاً لعدم تعاونهم مع مسألة الجباية وعدم متابعة أمر المقياس او العداد في كل بيت.

ان توزيع المسؤولية في أمر الكهرباء، بين المواطن والمسؤول، لهي المهمة الكبرى والبداية الناجحة لحلول ناجحة لهذه الازمة، فكما يتحمل المسؤول قسطاً من المسؤولية على عاتقه ويلتزم بأداء الامانة والحقوق للناس، فان الناس بدورهم عليهم واجبات لابد ان يلتزموا بها، فما المانع من أن يسمع المسؤول، حركة او مبادرة جماهيرية تعبر عن إسهامه في حل مشكلة الكهرباء، وتأتي في المقدمة، التقليل من الاستهلاك، وهذه مهمة منظمات المجتمع المدني، في إعداد فعاليات ثقافية واعلامية وجماهيرية عامة لنشر ثقافة الاستهلاك والحفاظ على الصالح العام. فكما نجحت في خلق مظهر جميل للمدن، بالتشجيع على نظافة الشوارع، ورسم لوحات فنية وتوجيهية رائعة على الجدران بدلاً من الملصقات العشوائية والكتابات الهابطة، فهي جديرة بأن تنجح في مشاريع اخرى مثل مشروع الاقتصاد في استهلاك الكهرباء والماء ايضاً. هذا الواقع الجديد يفرض على المسؤول في الدولة إعادة حساباته بانه يتابع مشاريع استثمارية او انتاجية للكهرباء، ليس لتجهيز البيوت بالكهرباء المجان، وانه متفضّل من هذه الناحية، سواء التجهيز كان (20) ساعة في اليوم أو (12) ساعة – كما هو الآن- او حتى أقل من هذا بكثير، كما كان في السنوات الماضية، وهو الدافع الاول والرئيس لظهور حالات فساد واسعة بالملايين والمليارات خلال السنوات الماضية، تحت يافطة انتاج الكهرباء.

وإذن؛ فان أزمة الكهرباء تحل بسهولة في العراق، عندما يتعرف الناس على الطريقة الصحيحة للاستهلاك، وفي الوقت نفسه يعرف المسؤول حقيقة دوره ومسؤوليته في هذا المجال تحديداً، وأنه مساءل ليس فقط من شريحة معينة في المجتمع، إنما من قبل منظمات المجتمع المدني وجميع المؤسسات السياسية والدينية والاجتماعية الفاعلة، مثل الحوزة العلمية والاعلام والسوق وغيرها.

اضف تعليق