أخطر ما نعيشه اليوم أن يتسرّب هذا النظام (فكرا وسلوكا) إلى طبقة الشباب، فنحن أصلا مجتمعات مقهورة، ودول مغلوبة على أمرها، وهذه المجتمعات ومن بينها العراق، نتطلع إلى الخلاص من سيطرة التخلف والجهل على مفاصل حياتنا، فإذا كان العصر الذي نعيشه محكوما بنظام التفاهة...
تعني كلمة (تفاهة) الانشغال بالتوافه، وهي الصغائر التي لا ترتقي بالإنسان، وتعني التفاهة أيضا: النقص في الأصالة أو الإبداع أو القيمة، وحين يُقال أن فلانا يَشْتَغِلُ بِتَوَافِهِ الأُمُورِ، فهذا يعني أنه منشغل بِمَا لاَ أَهَمِّيَّةَ لَهُ، وقد وصف فلاسفة ومفكرون عالم اليوم، بأنه مسيَّر بآليات (نظام التفاهة) وهذا عنوان كتاب الفيلسوف الكندي المعاصر (آلان دونو).
صُنِّف هذا الكتاب بحسب بعض النقاد في خانة أدبيات "ما بعد الحداثة" كاتجاه فكري يُعنى بنقد مآلات وصيرورة الحداثة الغربية التي استحالت إلى تضخم النزعة المادية والاستهلاكية، بدلا من تحرير الإنسان وصون كرامته، حيث يعرّف الفيلسوف المذكور نظام التفاهة بأنه "النظام الاجتماعي الذي تسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على جميع مناحي الحياة، وبموجبه تتم مكافأة الرداءة والتفاهة عوضاً عن العمل الجاد والملتزم".
أخطر ما نعيشه اليوم أن يتسرّب هذا النظام (فكرا وسلوكا) إلى طبقة الشباب، فنحن أصلا مجتمعات مقهورة، ودول مغلوبة على أمرها، وهذه المجتمعات ومن بينها العراق، نتطلع إلى الخلاص من سيطرة التخلف والجهل على مفاصل حياتنا، فإذا كان العصر الذي نعيشه محكوما بنظام التفاهة، ونحن أصلا نعاني من السطحية وعقم التفكير، فماذا ننتظر لو أن شبابنا أصيبوا بهذا النظام (التافه)، وهم يعيشون في قلب (المعركة) بين المادية والأخلاق؟؟
لا أحد يستطيع إنكار الواقع العالمي المكبّل بالمادية من رأسه حتى أخمص قدميه، ولا مغالاة في ذلك، فالنزعة المادية والربح السريع، وغياب الضمير، ونقص الأخلاق، وانعدام الضوابط، وسيطرة الربحية المادية على كل شيء، حدثت بسبب (نظام التفاهة) الذي مكّن التافهين والسطحيين من السيطرة على ثروات العالم والتحكم بالموارد البشرية والطبيعية.
كيف نحتمي من المادية التافهة؟
وهذا ما لا نريد له التسلّل إلى أدمغة الشباب العراقي، لاسيما أن الساحة الافتراضية عبر وسائل التواصل مفتوحة على مصراعيها أمامهم، فجميع الثقافات الهدّامة متاحة لهم، وجميع الأفكار والسلوكيات والمغريات المادية تعرض نفسها عليهم بلا تردد، لذا فإن أي نقص في الحصانة الأخلاقية والفكرية، تعني انحدرا سريعا للشباب في مستنقع التفاهة المدمِّر.
هناك وسائل حماية وحصانة فردية وجمعية، رسمية وأهلية، يمكن أن تحمي الشباب من مخالب النزعة المادية ومغرياتها وحبائلها، على المستوى الفردي مطلوب من الشاب العراقي أن يعي الخطورة الجدية التي تحيق به، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوكيات والمظهريات المنحرفة، في هذا الجانب يقع على الشاب قسم كبير من مسؤولية النهوض بعقليته إلى الدرجة التي تحميه من الانزلاق في التفاهة والانحراف.
المسؤولية الجمعية لحماية الشباب تبدأ، من العائلة، الأب والأم والأخ الأكبر، ثم المدرسة صعودا إلى مراحلها العليا، الجميع هنا يجب أن يتصدى لحملات التسطيح المغرضة التي تجتاح عقول شبابنا، يجب أن تكون هناك محطات تنويرية عملية دائمة، توجّه الشباب على مدار الساعة وتنبههم على الأهداف المبيّتة لهم، والتي تنوي جذبهم بقوة وإدخالهم في نظام التفاهة المادية التي تُغرق كل شيء ومن جميع الجهات.
المنظمات الأهلية عليها دور هائل وكبير ومسؤول، ويجب أن تبادر في خطوات مخطط لها، تقدم الوعي اللازم للشباب، وتضيء أمامهم السبل الصحيحة العميقة وليست التافهة، فالمادة في شكلها تُبهر الشاب، لكنها خالية من العمق، وهذا ما لا يدركه الشباب للوهلة الأولى، فبعد السقوط في مخالب المادية وتجريب الدناءة والتفاهة والفراغ الروحي الهائل، يتنبّه الشاب إلى الخطأ الذي وقع فيه، لكن حين يُضاء الدرب أمامه ويحصل على الحصانة العقلية الأخلاقية، فلا شيء يمكن أن يجرّه إلى مستنقع التفاهة.
إذاً هناك جهود توعية متعددة المصادر، منها ذاتي يتحمله ويبادر به الشاب نفسه وهو جهد بالغ الأهمية ولا يجب النظر إليه على أنه جهد ثانوي أو بسيط، يوازيه في القوة والقيمة والنتائج جهد العائلة في هذا المجال وقد يتفوق عليه، ثم تستمر حواضن التعليم والعمل والمجتمع كافة بالتصدي للمادية، وبالعمل المشترك لتجفيف كل مستنقعات التفاهة، وتضع بينها وبين الشباب حواجز شاهقة تحميهم من أشواكها القاتلة.
حلول لمواجهة سطحية التفكير
خطط العمل التي يجب إعدادها و وضعها في مواجهة تفشي واتساع مستنقعات التفاهة، يجب أن تكون في مقدمة انشغالات الجهات المعنية بحماية الشباب من السطحية، ولا يكفي وضع الخطط، أو تحديد الإطار العملي لمنع التفاهة من بلوغ أدمغة الشباب وأساليب وأنماط عيشهم وتفكيرهم، بل يجب أن يرافق ذلك رؤية واضحة لتطبيق خطط العمل.
هناك مقترحات يمكن تطبيقها لتقليل مخاطر مستنقع التفاهة المادية على الشباب، منها:
- المشاركة الأسرية الفعالة في صناعة شخصية ملتزمة و واثقة.
- تدريب الشباب على تطوير عقلياتهم وتفكيرهم.
- تيسير وسائل وأدوات التطوير مثل فتح مراكز ثقافية وما شابه.
- تطوير مهارات الشباب بشكل منتظم وسلس و عدم تعقيد الخطوات الإجرائية.
- خلق فرص عمل مختلفة سهلة مشجعة لجميع الشباب.
- امتصاص الطاقات الشبابية الكبيرة والحرص على عدم هدرها على أن يتم ذلك وفق خطوات علمية دقيقة، تخضع لتطبيقات عملية فعّالة.
- عدم ترك الشباب أسرى للموجات المادية المتلاحقة عبر الإعلام الحديث ومن ضمنه وسائل التواصل المختلفة، والعمل على تقليل ساعات فراغهم إلى أدنى حد ممكن.
هذه بعض الحلول الواضحة والبسيطة، لمساعدة شبابنا على تجنّب السقوط في مستنقع التفاهة، وهنالك حلول أخرى، والعبرة ليست في كثرة الحلول المتاحة، وإنما في الإصرار على تطبيقها، وتحويلها من مفردات وكلمات مكتوبة، إلى واقع حال تطبيقي ينقذ شبابنا من عالم التفاهة (المادي) الذي يحيط بهم من جميع الجهات....
اضف تعليق