التقويم مفردة تختلف في المعنى عن التقييم، وان تشابهت المفردتان في بعض الجوانب، فالتقييم تأتي بمعنى منح الشيء أو الفعل قيمة محددة استنادا الى ضوابط ومعايير محددة، وهنا يأتي التقييم بمعنى تقدير درجة صحة الشيء، فعلا كان أم فكرا، أما التقويم فهو تصحيح الشيء او الفعل او الفكر، بعد فحصه، وهنا ايضا توجد معايير متَّفق عليها تستند إليها عملية التقويم، وما يعنينا في مقالنا هذا ليس التقييم، وإنما دور الثقافة في تقويم المنهج الفكري والسلوكي للمجتمع، وهنا يلوح في الأفق تساؤل مهم، هل هناك قدرة للثقافة على القيام بدور التقويم، واذا كانت الإجابة بالإيجاب كيف سيتم تنفيذها على نحو ملموس او عملي؟.
في الشق الثاني من عنوان المقال، تأتي قضية جلد الذات، وتعني لغويا إيذاء النفس، وقد يكون الايذاء مادي جسدي، وربما يكون الإيذاء نفسيا، حيث يتحدث علماء النفس عن جلد الذات على انه مرض يتعرض له الانسان من حيث الجانب النفسي عندما يحاصره الشعور بالذنب على نحو دائم، ومن دون ان تكون لديه الارادة القادرة على انتشاله والعبور به من حالة العجز والوقع في أسر الإيذاء النفسي، الى حيز التصحيح ومعالجة أسباب الشعور بالذنب، وهكذا يتبين لنا أن جلد الذات حالة ليست صحية، فهي تهدف في الحالتين المادية او النفسية الى إلحاق الاذى بالنفس، والدافع هو الشعور بالخطأ ومن ثم الذنب.
واذا كان الخطأ أمرا لابد منه في النشاط البشري، فإن بقاء الانسان أسيرا لجلد الذات يجعله في حالة سلبية دائمة، فالخطأ كما تؤكد التجارب الفردية والجمعية أمر لا مفر منه، بل كثير من الاخطاء تدفع نحو التصحيح والانطلاق بالاتجاه الذي ينقل الانسان الى مرحلة النجاح، ولا يغالي العلماء والمختصون عندما يقولون، لكي تنجح لا يمكن أن تتفادى الخطأ على نحو تام، فالناس الناجحون هم أولئك الذين يجربون كثيرا ويخطئون كثيرا، لكنهم لا يبقون اسرى للندب والشعور بالذنب، انما غالبا ما يكون الخطأ بعد التقييم محفزا للتقويم والتصحيح ومن ثم الانطلاق نحو مراحل تغيير الخطأ الى الصواب.
وفي عودتنا للإجابة عن السؤال المهم حول دور الثقافة في التقويم، وما مدى أهميته وحضوره في حياتنا كعراقيين، فإننا نلاحظ دورا مهما للتقويم يعود الى الثقافة النخبوية والمجتمعية عموما، استنادا الى تجارب المجتمعات والدول المتقدمة، وهذا يؤكد أن الثقافة بشقيها النخبوي والمجتمعي ينبغي ان يكون دورها التقويمي حاضرا، بل متميزا، عبر أساليب وسبل عديدة، من بينها تأشير الاخطاء، ونقد المصادر، وطرح البدائل على نحو دائم، ولكن ما تتم ملاحظته على نحو شبه دائم في هذا المجال، هو ضعف الدور التقويمي للثقافة النخبوية والعامة أيضا، أو غياب هذا الدور تماما، وهذه مشكلة لها أضرارها الفادحة التي أدت بدورها الى مراوحة المجتمع العراقي في مكانه لأزمنة بعيدة، وما ضاعف من هذه المشكلة عبر هذه الازمنة المتواصلة، اننا استحدثنا بدلا من التقويم، ظاهرة جلد الذات التي احتلت عمليات التصحيح بالكامل إلا ما ندر، فصار شعورنا بالذنب على نحو دائم هو الدور الذي تقوم به ثقافتنا، بدلا من دورها التقويمي الذي كان بإمكانه وضع المجتمع والدولة العراقية في مكان آخر وتسلسل أفضل في قائمة الدول المتحضّرة!.
أما الاسباب التي تقف وراء الركون الى ثقافة جلد الذات بدلا من اعتماد وتفعيل ثقافة التقويم، فهذا يعود الى طبيعة الثقافة نفسها، والأهم من ذلك دور المثقفين القاصر في هذا الجانب، لدرجة أننا يمكن أن نقول أن المثقف العراقي نفسه يميل الى جلد الذات وإيذاء النفس وندبها، بدلا من السعي على نحو جاد ومدروس ومخطط له، لكي تمضي الثقافة والمثقفون قُدُما في اسلوب التقويم والتصحيح، بدلا من الركون الى حالة الشعور بالذنب وتعميمها.
وظاهرة التعميم هنا، يمكن توضحها على النحو التالي، لدرجة أن هذه الظاهرة باتت تمثل ثقافة لجميع الطبقات إن صح التعبير، فالطبقة السياسية مثلا، مشبعة بهذه الثقافة الى الآن، ولم تتمكن على الرغم من التغييرات الجوهرية في البنية السياسية أن تتخلص من ظاهرة الندب والشعور بالذنب وجلد الذات، واذا كان هذا ديدن صناع القرار، تُرى ماذا يمكن أن تفعل الطبقات الاخرى في المجتمع؟ فهل يمكن مثلا لطبقة العمال او الكسبة او سواهم من تغيير ثقافة جلد الذات الى المنحى التقويمي المصحح والمنتقد في الوقت نفسه؟، والمقترِح للبدائل الملائمة التي يكون بإمكانها النهوض بالمجتمع بعد القيام بعمليات التصحيح الواسعة المرافقة لثقافة التقويم، والتي ينبغي أن تحل بدورها محل ثقافة جلد الذات؟.
إن هذه التساؤلات تضع إصبعها على الجرح، وتهدف الى أهمية بل حتمية، التخلي عن الثقافة العجزة التي لا تتمكن ان تنهض بالمجتمع، ولا شك أننا نحتاج في هذه المرحلة الى ثقافة تقويم واسعة ومدروسة، تشمل جميع مجالات الحياة لاسيما السياسية منها، كونها صاحبة القرار الاول في النهوض بالدولة والمجتمع، وعلينا أن نضع ثقافة جلد الذات خلف ظهورنا، نعم يمكننا أن ننتقد ونشير الى الاخطاء التي نقع فيها ونرتكبها، لكن ينبغي أن لا يتوقف الامر عند هذا الحد، إننا بصريح العبارة، نحتاج الى معرفة اخطائنا بدقة وفي الوقت نفسه نحتاج الى تقويمها وتصحيحها، بدلا من البقاء تحت هيمنة ظاهرة جلد الذات القاصرة.
اضف تعليق