إن صلة الرحم بالنسبة له شيء فائض عن الحاجة، ولا يعنيه من قريب أو بعيد، لذلك مثل هؤلاء الناس تجد قلوبهم متحجرة، ولا تجد فيها رحمة، ولا تسامح، ولا أي مجال للتعاون مع الآخرين، فالمهم لديهم مكاسبهم المادية، أما الإنسانية فهي مفردة ممحوّة من قواميسهم...
كثيرة هي عيوب البشر، لكنها تختلف في درجة الأذى الذي تُلحقهُ بالآخرين، هناك عيب جرحهُ وأذاه كبير، وآخر أذاه أقل فأقلّ... وهكذا، لكن أشد العيوب وأكثرها بشاعة حين يتجرّد قلب الإنسان من السماح والرحمة، والعفو حتى عن أقرب الناس إليه..
يُحكى أن هناك رجلا حكيما وغنيا، لديه ثروة كبيرة جمعها بالحلال، وكان معروفا بالسخاء في قريته، أشقاؤهُ كُثر، جميعهم يجلّون أخاهم الكبير ويحبونه بسبب رعايته لهم، لكنه لا ذرّية لهُ سوى ابن وحيد، وأسماهُ (وحيد)، وقد حرص على أن يربّيه على الكرم والتسامح والأخلاق الرفيعة، ولأنه الابن الوحيد لم يرفض له أبوه طلباً.
وبعد أن اشتدَّ عود وحيد وكبر، صار شابّا جميلا حسن المظهر، جميل المنظر، حلو الأخلاق والخصال، وكانت بنات القرية جميعا تتمنى الفوز به، وذات يوم رأى (وحيد) فتاة جميلة في القرية، فُتِنَ بها، تعلق بها بصرهُ وقلبه، فعرف موقع دارها، وسأل عنها جيدا، ثم جاء لأبيه وأخبره بطلبه هذا، ولأنه عزيز ولن يرد له طلبا، قال له أبوه:
- موافق على طلبك، اذهب لأبيها وأطلبها منه، وباقي الخطوات أنا سأقوم بها.
ذهب وحيد إلى بيت البنت والتقى أباها وطلب يدها منه، فقال له الأب (وهو يعرف أباه ومكانته الكبيرة في القرية):
- اذهب وقلْ لأبيك نحن عائلة فيها ملوحة (أي فيها سمرة العبيد)...
فخرج وحيد مهموماً خائفا من احتمال فقدانه للفتاة التي سلبت عقله، وأخبر أباه بما قاله له أبو البنت، فأجابه أبوه بعد أن رأى القلق والخوف في عينيه:
- اذهب وقل له أبي لا يرى في ذلك مشكلة، إننا لا نفرّق بين الناس بألوانهم.
فذهب وحيد إلى أبي البنت وأخبره بأنهم موافقون ولا مشكلة في ذلك، فتحجّج أبو البنت بسبب آخر للرفض وقال لوحيد:
- أنت ابن شيوخ حكماء وأغنياء، اذهب واخبر أباك بأننا نمتهن مهنة الحياكة (وكان العرب سابقا لا يتزوجون من العائلة التي تعمل في حياكة الملابس).
فازداد وحيد خوفا وقلقا، وذهب لأبيه وأخبره بذلك، وحين رأى أبوه حزنه الشديد تجاوز هذه العادة رغم صعوبة ذلك بين أهالي القرية، وأخبر وحيد بأن يذهب لأبي البنت ويقول له بأننا موافقون ولا مشكلة في ذلك، فالعمل شرف لنا...
عاد وحيد إلى بيت البنت وأخبر أباها بأنهم موافقون ولا مشكلة في ذلك، هنا قرّر أبو البنت أن يصارح وحيد بالحقيقة، وقال له:
- أنت ابن شيوخ أكارم والآن لابد أن أكون صريحا معك، نحن عائلة (ما بينا ملوحة) ولا نعمل في الحياكة، لكنَّ الموجود في عائلتنا أشدّ وأسوأ من ذلك، نحن (بينا كطع) أي نفتقد لصلة الرحم تماما، اذهب وقل هذا الكلام لأبيك....
عاد وحيد إلى أبيه مثقلا بالهموم والحزن، وقد شارف أمله على النهاية، وحين أخبر أباه بما قاله له أبو البنت، صفنَ أبوه وأخذت لون وجهه يميل للاحمرار القاتم، ثم قال لابنه وحيد:
- ابني وحيد أنا قبلتُ بكل العيوب التي لا يقبلها أعمامك ولا أهالي القرية، بل ويرفضونها قطعيّا، وهي تقلل من مكانتنا بينهم جميعا لكن مع ذلك ومن أجلك أنت، وافقتُ كي تقترن بالبنت التي رغبتَ بها واخترتها وأحببتها، لأنك ابني الوحيد ولن أرد لك طلباً، ولكن أن يصل الأمر إلى قطع (صلة الرحم)، فهذا ما لا أقبلهُ مطلقا، ولا يقبل به الناس جميعا، كل شيء يمكن إصلاحه، ويمكن معالجته، لكن قطع صلة الرحم لا علاج لها، وهي إنْ أصابت الإنسان فلن يعودُ إنسانا له قلب سويّ.
في لحظة سماع وحيد لكلمات أبيه، قرّر نسيان البنت تماما، بل لم يعد لها أي وجود في عقله ولا خياله، وعلى الفور أخبر أباه بقناعة كاملة ومن دون أسف أو تردد، بأنه لا يريد الارتباط بعائلة لا رحمة في قلوب أفرادها، وتفتقر لأنبل صفات الإنسان، ألا وهي صلة الرحم التي أوصى بها الأنبياء والأولياء الصالحين، لأنها تجعل حياة الناس أفضل وأسهل وأكثر نبلاً وتساميا وتماسكا.
ما نستخلصهُ من هذه الحكاية، أن هناك بعض الناس فعلا قلوبهم من حجر، فهو لا يعبأ بأخته أو أخيه، بل لا يهمه أباه أو أمه، وهناك من يشطب حتى على أبنائه من حياته، ولا يتردد لحظة في مسح هؤلاء جميعا من وجوده، لا لشيء إلا لأنه لا يعترف بصفة أسمها العفو أو الرحمة.
لذلك فإن صلة الرحم بالنسبة له شيء فائض عن الحاجة، ولا يعنيه من قريب أو بعيد، لذلك مثل هؤلاء الناس تجد قلوبهم متحجرة، ولا تجد فيها رحمة، ولا تسامح، ولا أي مجال للتعاون مع الآخرين، فالمهم لديهم مكاسبهم المادية، أما الإنسانية فهي مفردة ممحوّة من قواميسهم.
اضف تعليق