لا أحد من العراقيين ينكر بأن الواقع الذي يعيشه العراق اليوم غير مشجع، وأقرب للغموض والفوضى، فالعراقي الواقعي يرى الامور كما تجري تماما بكل ما تنطوي عليه من تشابك وتعقيد، ويفهم أن الوضع الراهن مرسوم بعقول كانت قد خططت لما يجري في المنطقة الآن منذ زمن بعيد، وتم شمول العراق بالأزمة الراهنة، لكي تتم إعادة رسم المجتمعات والدول وفقا لمصالح القوى العالمية والاقليمية التي ترتبط مصالحها مع بعضها، وطالما أن الوقوف بوجه التيار الكاسح يمثل حلا مستحيلا، لذا ينبغي أن نتفق كعراقيين على الخروج من هذه (العاصفة الطويلة) بأقل الخسائر!.
إن ما يحدث اليوم ليس غريبا او غامضا خاصة لدى العقول المتخصصة الواعية، لذا يتابع العراقيون ما يجري ويحاولون أن يعثروا على الحلول المناسبة التي تقلل خسائرهم الى ادنى حد ممكن، فمن يطالع صفحات تاريخ هذا البلد بهدوء وتفحّص، لا ريب انه سيصل الى قناعة، بأن الشعب العراقي غالبا ما يهتدي الى السبل السليمة التي تقوده الى الحلول الصحية ولو بعد حين، ومهما امتد أمدهُ، فهذا الشعب معتاد على الظلم، لكنه لا يتعايش معه ولا يصبر عليه، إذ سرعان ما يثور على الفساد والظلم بعد أن يتفحص الامور المحيطة به بعمق ووضوح، لذلك لن يبقى العراقيون مكتوفي الايدي ولا العقول، بحثا عن المخارج السليمة والحلول التي تقودهم الى الجادة الصواب، لذلك يبقى هذا الشعب كما اثبتت التجارب الكثيرة الموثَّقة، على وعي بما يدور حوله واذا كانت مجاراة الواقع تفرض عليه بعض المهادنة، فإن حالة الانتفاض والاحتجاج تبقى قائمة لديه عندما تغلق السبل الصحيحة امامه، ويظل يتحين الفرص لإزالة كل أسباب الاساءة له، وهذا بالضبط ما قام به العراقيون مع الانظمة الظالمة والتابعة للاستعمار في الغالب، ولكن ثمة مشكلة كأداء تتمثل بسرقة جهود الشعب العراقي وانتفاضاته من لدن العسكريين والسياسيين الانتهازيين التابعين للمستعمرين ودوائرهم المخابراتية، فيأتي النظام البديل شبيها للنظام الظالم المُطاح به، وهذا ما يجعل جهود الشعب تضيع سدى في معظم الثورات والانتفاضات ليبدأ طريق الكفاح من جديد.
علما أن التطلع الى المستقبل وآفاقه الواسعة من اهم صفات العراقيين، أي انهم لا يستجيبون لحالة اليأس المفروضة عليهم، ولعل المشكلة التي يعاني منها الشعب غياب العقول التي تخطط للمستقبل وتنظّم الحاضر، وهناك سبب واضح لضياع جهود العراقيين وخسائرهم وتضحياتهم الضخمة، وأهم هذه الاسباب غياب الرؤية الاستراتيجية للبناء الجديد، بمعنى أوضح أنهم لا يضعون خططا واضحة وبعيدة المدى للبناء الامثل بعد إسقاط الحكام والحكومات الدكتاتورية التابعة للمستعمر، ولهذا تجد أن هذا الشعب الذي لا يقتنع ابدا بالحاكم المستبد ولا يخضع له ولا لبطشه، غالبا لا يجني ثمار انتفاضاته وثوراته، والسبب كما ذكرنا غياب التخطيط الاستراتيجي للبناء السليم في الحاضر وفي المستقبل المنظور.
وهذا الخلل يمكن ملاحظته فعلا في حياة العراقيين الذين عليهم ان يتصدوا بذكاء وقوة ودراية لمستلزمات المرحلة الراهنة ونتائجها المستقبلية، بمعنى مطلوب من النخب والعقول الواعية والكفاءات، أن لا تتخلى عن دورها الصحيح في النهوض بالبلد دائما والتعامل العلمي مع آفاق المستقبل، وعليهم أن يبذلوا قصارى جهودهم، وأن يضعوا الخطط التنظيرية والتنفيذية الكفيلة باستثمار الراهن السياسي والاقتصادي في البناء الامثل للبلاد، منها واكثرها أهمية نشر الحريات المدنية دونما عوائق بين عموم الشعب، وعدم المساس بالحقوق، واتاحة الفرصة للانتخاب الحر، ومحاربة اوجه الفساد كافة لاسيما الفساد الذي يتعلق بالتجاوز على المال العام بشتى الطرق، وينبغي مقاضاة الايدي التي تمتد للمال العام فورا وبقوة، لانه السبيل الى حماية ما تحقق للعراقيين من انفتاح وتطور في ميادين الاقتصاد، وازدياد موار البلاد لاسيما ما يتعلق بمضاعفة تصدير النفط، واستحداث موارد اخرى وعدم الاعتماد على مورد واحد للاقتصاد حتى لا نتحول الى دولة ريعية غير منتِجة.
وتأتي قضية الاصرار القاطع على طرد الارهاب والدواعش من ارض العراق مؤشرا واضحا على تصميم العراقيين بإعادة الامور الى نصابها، من هنا تشير جميع المؤشرات الواقعية على الارض أن العراقيين يستعدون بقوة لمغادرة مرحلة الفوضى واستخدام ورقة الطائفة وكل طرائق الفتن التي باتت قديمة ومملة وبات الشعب العراقي كله يستهجنها، وهو بذلك اصبح اكثر وعيا من قادته السياسيين الذين لا يزلون متمسكين بأوراق احترقت تماما ولم يعد لها اي تأثير على الشارع، كما يحاول السياسيون استخدامها من اجل كسب الشارع العراقي الذي اصبح اليوم اكثر وعيا من قادته السياسيين، إذ صار الشعب يتطلع للبناء الجديد ويبحث عمّن يجعله مواكبا لعجلة العالم المسرعة باتجاه التقدم والتطور وبناء الدولة المدنية.
لذلك هناء ملامح وظواهر ايجابية تلوح في الافق، وتتحرك على ارض الواقع العراقي، كلها تؤكد أن حالة الوعي التي ترافق التصدي لداعش وللارهاب ولحالات الفساد، إنما تمثل موجة جديدة من الوعي والارادة نحو التغيير الأفضل لاسيما أن الشعب العراقي الذي قدم ما يكفي من التضحيات والخسائر، اصبح شعبا واعيا، وان الشارع صار يفهم بوضوح ألاعيب بعض السياسيين التي تقترب من الخداع وتحاول التلاعب بمشاعر الشعب، استنادا الى اساليب باتت بائسة مثل العزف على وتر الطائفية، وقد تم قطع هذا الوتر ولم يعد قادرا على العزف النشاز، فقد اصبح الجميع يمارس عقائده وطقوسه كما يؤمن ويرغب ويرى، وهي ظاهرة تدعم نشوء الدولة المدنية التي تحمي الجميع، وهذا تحديدا ما يحتم على السياسيين ان يغادروا المرحلة البائدة، ويتحركوا الى الامام بما يتسق مع تطلعات العراقيين ونزوعهم الحقيقي والكبير نحو البناء والتقدم والتطور في ظل دولة مدنية متحررة باتت جميع المؤشرات تدل على امكانية بنائها، استنادا الى الوعي العراقي المستمد من الوعي التاريخي الذي لم يستطع بعض الساسة التابعين من إطفائه على مر التاريخ.
اضف تعليق