هل يمكن أن يجمعَ الإنسانُ سلطة الملوكيّة في الدار الأولى وفي الآخرة معاً؟، سؤال قد يبدو غريبا، لكن الأمر المتوقَّع، أو المفروغ منه، أن الحكام لا يمكنهم الجمع بين صفة الملوكية في الدارين، فمن يكون حاكما في الدنيا، من الصعب عليه أن يخرج من مهمة (الحكم) نظيف اليدين، ومرتاح الضمير...
هل يمكن أن يجمعَ الإنسانُ سلطة الملوكيّة في الدار الأولى وفي الآخرة معاً؟، سؤال قد يبدو غريبا، لكن الأمر المتوقَّع، أو المفروغ منه، أن الحكام لا يمكنهم الجمع بين صفة الملوكية في الدارين، فمن يكون حاكما في الدنيا، من الصعب عليه أن يخرج من مهمة (الحكم) نظيف اليدين، ومرتاح الضمير، لأنه قد يظلم أحداً، وربما لا يعدل بين الناس، وهذا ما سوف يضعه في موقع المساءلة بالآخرة.
رجل مسنّ، تبدو معالم الحكمة في شخصيته، وملامح وجهه، وكلماته، أثبت إمكانية جمع الملوكيّة في الدارين، من خلال هذه الحكاية الفريدة التي أسمعني إيّاها، بأسلوب شيِّق، قال:
هناك قرية تغفو على شاطئ بحر هادئ، هذه القرية لا يمكن دخولها إلا من بوّابة واحدة، وفيما عدا البوابة فهي معزولة عن العالم، ويوجد المنفذ البحري أيضا، فهو يربط القرية بجزيرة بعيدة معزولة، لا تتوفر فيها متطلبات استمرار العيش، طريقة الحكم في هذه القرية غريبة، لكنها أصبحت عُرفاً راسخا من أعراف سكانها، توارثوه جيلا بعد جيل.
حكام هذه القرية يتم اختيارهم من زائريها حصراً، فحين تنتهي سلطة حاكم القرية بعد فترة زمنية محدّدة، تُغلق القرية تماما، وتمكث لجنة اختيار الحاكم الجديد عند بوابة الدخول الوحيدة للقرية، وحين يدخلها أول زائر سوف تقوم لجنة تنصيب الحاكم بالتفاوض معه، فيتم عرض الحكم عليه، وفي حال موافقته ليكون حاكما على القرية – وهو مخيَّر وليس مجبراً-، هناك شرط يجب أن يوقّع عليه بإمضائه مع شهادة الشهود عليه، وهذا الشرط هو:
(بعد انقضاء فترة الحكم المحدّدة، لا يحق له ولاية أخرى، وسوف تتم تنحيته من السلطة وتجريده من كل امتيازاته، وتقوم قوّة كبيرة من أهالي القرية بنفيهِ إلى الجزيرة البعيدة، فيفقد العيش فيها بعد أيام قليلة، لأنها خالية من الطعام والماء والسكن والمواصلات، ومن كل شيء موجود في القرية، ولكن طالما هو حاكم، لا يوجد ضدّه أي اعتراض ولا أية معارضة لما يقوم به)، وقد فقد أشخاص قَدِموا إلى القرية حياتهم، وقبلوا التمتعَ بالحكم، ومن ثم بالنفي للجزيرة المعزولة وفقدان الحياة فيها.
ذات يوم انتهىت فترة حكم الحاكم في هذه القرية، وصار لزاما عليهم تنحيته ونفيه، وقاموا بذلك فعلا، ثم أغلقوا القرية وفتحوا بوابة الدخول الوحيد، ودخلها الزائر الأول، وتم عرض الحكم عليه، فسأل أهل القرية وكبارها: هل أنا مطلق اليدين فيما أفعله أثناء فترة حكمي؟، أجابوه بنعم، ووافق على شرطهم، وصار حاكما عليهم.
وما أن بدأ مشوار سلطته وحكمه، حتى شمّرَ هذا الحاكم الجديد عن ساعديْه، وقام بنقل البذور والنباتات من القرية التي يحكمها، إلى الجزيرة المعزولة عبر البحر، وأعقب ذلك بحملة بناء لمشاريع مختلفة، وأضاء الجزيرة بمنظومة إنارة رائعة، وزودها بالكهرباء وشبكة مواصلات وطرق بمواصفات ممتازة، وبنى المصانع والمعامل المختلفة، وبنى لهُ قصرا كبيرا من طراز رفيع، وقام بخزن مواد غذائية وأطعمة وعصائر من جميع الأصناف وكميات كبيرة، فيما بدأت الأشجار والبساتين التي عمّرها تؤتي أكُلُها مع كل موسم جديد.
لم يستطع أحد من أهالي القرية أن يعترض عليه، لأنه لم يخلّ ببنود وشروط الاتفاق، كانوا ينظرون إليه بإعجاب وهو يعطي أوامره بإحياء الجزيرة المعزولة، فلم يكن من بين الشروط أن لا يعمّر الجزيرة، مما جعله يعمل بكل قوته وإمكانياته على إعمار الجزيرة، وبث روح الحياة فيها، فتدفقت فيها فعلا روح الحياة، بل تفوقت بكثير عن الحياة في القرية، وحين انتهت دورة حكمه، لم يرفض تجريده من السلطة والصلاحيات، وعندما نفاه أهالي القرية إلى الجزيرة، انتقل إليها برحابة صدر، لأنه كان قد عمّرَ الجزيرة وجعلها أجمل وأفضل من القرية التي حكمها بكثير، فعاش فيها معزَّزاً مكرَّماً، وأقام في القصر الكبير المتميز الذي بناه مسبقا، لا ينقصه أي شيء.
توقَّفَ الرجل المسنّ قليلا بعد أن انتهى من حكايتهِ، ثم وجّه الكلام لي متسائلا:
بماذا تذكّركَ أو توحي لك هذه الحكاية؟؟، وقبل أن أجيبهُ، أكمل كلامه لي:
حياتنا ودنيانا هذهِ، هي القرية التي نعيش فيها، أما الجزيرة البعيدة فهي الآخرة، وسوف ننتقل إليها في نهاية المطاف، اليوم نحنُ حكام على أفعالنا وأعمالنا في الدنيا، ويمكن أن نبني في آخرتنا ما نشاء من قصور وأعمال ومشاريع، عبر التزامنا بالعمل الصالح ومراعاة حقوق الآخرين، والتعاون المتبادَل، وعدم إلحاق الأذى بالناس، فهل نعمّرُ جزيرتنا البعيدة بهذه الأعمال، ونحن قادرون على ذلك؟؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن نطرحهُ على أنفسنا، ونجيب عليه بالطريقة العملية الصحيحة، قبل أن نفقد امتيازاتنا في الدنيا.
اضف تعليق