هل يمكن أن يكون الابن نموذجاً لأبيه؟، سؤال قد يثير الاستغراب كونه يُبادل بين الأدوار، فيجعل من الابن قدوة لأبيه، في حين أن دور الأب الطبيعي أن يكون هو النموذج لابنه، فكيف تغيَّرت الأدوار، وما هي الأسباب التي سرقت هذا الدور الأهم من الأب لتمنحه إلى الابن!، بينما المتعارف عليه هو العكس تماما...
هل يمكن أن يكون الابن نموذجاً لأبيه؟؟، سؤال قد يثير الاستغراب كونه يُبادل بين الأدوار، فيجعل من الابن قدوة لأبيه، في حين أن دور الأب الطبيعي أن يكون هو النموذج لابنه، فكيف تغيَّرت الأدوار، وما هي الأسباب التي سرقت هذا الدور الأهم من الأب لتمنحه إلى الابن!!، بينما المتعارف عليه هو العكس تماما.
بدءاً هل يمكن أن نتفق على إمكانية حدوث مثل هذه الحالة في واقعنا؟، أي هل يُعقَل أن الابن قادر على أن يكون نموذجا لأبيه، كيف يحدث هذا، ولماذا، وهل يتقبّل الأب هذه الفكرة، أي أن يكون ابنه قدوتهُ؟؟
في إحدى الجلسات التي جمعتني بصديق ريفي (فلاح)، أحبّذُ الجلوس معه بسبب حكاياته التي تتحلى بالإمتاع والفائدة، قدم لي حكاية جديدة وتجربة لا تُنسى، فحكاياته ليست كلمات فحسب، إنما تجارب وصور متحركة تراها بعينكَ وتسمع أصوات شخصياتها بأذنك، وما أسهلَ للإنسان أن يحصل على تجربة مفيدة لم يخضْ أحداثها ومصاعبها بنفسه.
يقول صاحبي الريفيّ في حكايته:
هناك شاب من شباب قريتنا اشتهر بهدوئه واتّزانه، وابتعاده التام عن الانفعال، وتعامله مع أصعب المشكلات كأنها سهلة الحلّ، كما اشتهر بين أهالي القرية بعدم رد الإساءة لمن يسيء إليه، على الرغم من أن أباه كان فظّا إلى درجة لا تُطاق، فكان أهالي القرية، رجالها وشبابها، يخشون الأب ولا يقتربون منه كي لا يتعرضون لغضبه وعنفهِ، وغالبا ما كان أهالي القرية يستغربون هذا الاختلاف بين الأب العنيف والابن المسالم!
لدرجة أن هدوء الشاب وبشاشة وجهه وتعاونه جعل من بعض شباب القرية يستهينون به، ويسيئون له أكثر، بل هناك من استضعفهُ وسخر منه دونما أيّ داعٍ، لكنهُ كان يترفّع عن الإساءة بالسكوت، أو الانصراف، أو بالابتسامة الرقيقة التي اشتهر بها، كبديل عن ردّ الإساءات، على عكس أبيه الذي كان يخشاه الجميع بسبب غلظته وقسوة قلبه وتهوره، وعدم تردّده في استخدام القوة حتى مع الأطفال.
في حين كان كثيرون ينظرون إلى هذا الشاب المسالم على أنه ضعيف عاجز، وبعضهم يرونه جباناً خائفا من خياله كما يقولون، لكنه كان إنسانا طبيعيا، لم يعزل نفسه عن أهالي القرية ولا عن شبابها، يشترك معهم في الأحاديث، وفي الألعاب الشبابية، وفي حملات الحصاد أو رشّ البذور في مواسم الزراعة، ومع كل الصفات التي تثبت بأنه شاب سويّ، كان الآخرون يستضعفونه بسبب كراهيته للعنف.
ذات يوم اشتعل حريق في أطراف القرية، والتهم بيوت عديدة مبنية من الطين والبردي، ظن الشباب أنه لن يشاركهم عمليات الإطفاء، لكنه (كما لاحظ أهالي القرية)، كان في الصف الأول من المتصدين للنار الهائجة، بل خاطر بنفسه حينما أقدم على إنقاذ طفلة وطفل حاصرتهما النيران داخل أحد البيوت، فيما انسحب جميع الشباب الذين استضعفوه وسخروا منه، والعجيب حقا أنَّ هذا الشاب الهادئ اخترق جدار النيران، وخرج حاملا الطفلة والطفل بذراعية وأنقذهما من موت محقّق، ومن الغرابة أن يختفي أبوه العنيف عن المشاركة في إطفاء النيران!، بينما ظنّ أهالي القرية أنه سوف يكون منقذهم الأول!!
بعد هذه الحادثة غيَّر كثير من أهالي القرية وشبّانها نظرتهم لهذا الشباب، بل جعلوه بطلا خاطر بحياته من أجل إنقاذ الطفلة والطفل، في وقت تردّد وخاف الآخرون من إنقاذهما!!، وأصبح الشاب مثار أحاديث الناس، فانشغل به أهالي القرية، رجالها ونساؤها، شبابها من البنين والبنات، وحين طرقت هذه الأخبار سمع أبيه، صُدِمَ للوهلة الأولى، كأنه لم يصدّق ما يتحدّث به أهالي القرية عن ابنه، فقد كان الأب نفسه يظن بأنّ ابنه جبانا لا يشبههُ في الجرأة والقوة، لكن مشاركته في حملة إطفاء النيران التي شبَّت في بيوت القرية، ومخاطرته بنفسه حين أنقذ الطفلة والطفل من الموت حرقاً، جعلته يعيد حساباته كليّاً.
لقد تغيّر الأب العنيف إلى رجل مسالم مبتسم بشوش الوجه متعاون، حدث هذا التغيير بشكل متدرّج، وحين كان يسأله الناس عن سبب هذا التغيير الكبير، كان يجيبهم (لقد تعلّمتُ من ابني أن أكون مسالماً)، حينها لم يستغرب أحد من هذا الجواب، لأن الشاب المسالم كان يستحق أن يكون مثالا للجميع دون استثناء.
وحين سأل أحدهم الشاب المسالم هذا السؤال:
- كيف أصبحت مسالما بشوشا متعاونا رحيماً، رغم أنّ أباك كان فضّا عنيفا قاسي القلب؟
حينها أجاب الشاب عن هذا السؤال بعد صمت وتأمل ولحظات صدق عميق:
- إنها أمي، هي التي علّمتني الرحمة، وبشاشة الوجه، وحُسن الكلام، والرأفة بالآخرين والشعور بهم، أمي هي النموذج الذي تعلمت منه كيف أكون إنسانا بمعنى الكلمة.
اضف تعليق