قبل ان نراجع التقويم، ويتضح أننا نعيش ذكرى رحيل المجدِّد والمرجع الديني الأعلى السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي – قدس سره- في الرابع والعشرين من شهر شعبان المعظم، كان المتفق عليه، تسليط المزيد من الضوء على سيرة حياة هذا العالم الجليل والقائد الفذّ، ضمن سلسلة الحديث عن الحركة النهضوية في الأسرة الشيرازية، بيد أن الاقدار شاءت أن يلتقي الحديث مجدَّداً عن الحركة النهضوية للمجدد الشيرازي، مع الحديث عن شخصيته في ذكراه. واذا كانت ثمة دلالات وراء اتخاذ أول مرجع دين أعلى، مدينة سامراء المقدسة، مقراً للحوزة العلمية، فانه حريٌ بنا أن نسلط الضوء على ما حققه هذا القرار التاريخي من آثار اجتماعية وسياسية.
هدية الحوزة العلمية
يعرف الناس عن الحوزة العلمية ورجالاتها في سالف الزمان؛ التبليغ للأحكام الدينية ونشر الفضائل والقيم الاخلاقية والدينية، أما الحضور الملموس لرجال الحوزة في الحياة العامة، فهو – على الأغلب- يتركّز في عقد الزواج ، وفي مراسيم الجنازة والصلاة على الميت. وهذا ما عالجه سماحة المجدد الشيرازي، ووسع من نطاقه، عندما نقل الحوزة العلمية الى مدينة سامراء المقدسة سنة 1391هـ ، ومع علمه بأنه يقيم في مدينة يغلب على سكانها السنّة، فان الحديث عن التعايش والتآلف بين السنة والشيعة، ونبذ كل اشكال التفرقة بين ابناء الدين الواحد، يبقى مجرد شعاراً اذا لم يكون مشفوعاً بإجراءات على الأرض. لاسيما وانه كان يشهد التجاذب الشديد على شيعة العراق، من جانبي القوة المتنافسة في المنطقة؛ وهي الدولة العثمانية، والدولة البريطانية. ففي الوقت الذي كان الاثنين يكنان العداء والحقد لهم، بسبب روح الرفض والمقاومة لديهم، فقد كانا يحاولان الاستفادة منهم لتحقيق سياسية. لذا كان لذكاء المرجعية الغلبة على تلك النظرات الضيقة، فالمصادر التاريخية تشير الى أن المجدد الشيرازي، عمد الى مشاريع تنموية عديدة في سامراء، التي كانت قرية صغيرة ومهملة في العراق في بدايات القرن الماضي. ففي الايام الاولى من إقامته شهدت المدينة عمراناً ملحوظاً، غير من ملامحها وأدخل السرور والارتياح على سكانها، ويمكن الاشارة سريعاً الى بعض تلكم الانجازات العمرانية:
1- بناء سوق كبير للمدينة يجمع فيه المحلات التجارية والحوانيت التي توفر حاجات الناس، وخدماتهم اليومية.
2- تشييد جسر كبير على نهر دجلة لتسهيل مرور سكان المدينة في الجانب الآخر من النهر، حيث كانوا يعتمدون لسنوات طويلة على ما يسمى بـ "الكفّة" للتنقل بين جانبي النهر، وقد أنفق في سبيل ذلك عشرة آلاف ليرة عثمانية ذهباً، ثم بعد إتمامه، سلمه للدولة تتقاضى هي أجوراً زهيدة، مقابل العبور عليه وذلك لغرض صيانته ودوامه .
3- بناء البيوت الخاصة للزائرين بما يشبه "الفنادق" مقابل أجوز زهيدة، وهذا ما أسهم في خلق فرص عمل وتحريك الحركة التجارية في المدينة، بعد استتباب الأمن وزوال غمامة المشاحنات الطائفية التي كان يشكو منها الزائرين في السنوات الماضية، فارتفع عدد الزوار من كل مكان الى هذه المدينة المقدسة للتشرّف بزيارة الامامين العسكريين، عليهما السلام.
4- بناء المدارس العلمية، ليس فقط للشيعة، وإنما لغيرهم ايضاً، فبعد بناء مدرستين كبيرتين لطلاب العلوم الدينية، اندفع علماء السنّة لأن يكون لديهم مدرسة دينية ايضاً. واستناداً الى سماحة السيد رضي الشيرازي، أحد أحفاد المجدد الراحل، المقيم في طهران، فان علماء السنّة شرعوا في مشروع البناء ، إلا انهم تعثروا بسبب قلّة المال، فلجأوا الى المجدد الشيرازي، الذي لم يتوانَ عن مساعدتهم مالياً لإكمال مشروعهم بتشييد المدرسة الدينية الخاصة بهم.
هذه الخطوات هي التي جمّدت لفترة من الزمن المشاحنات الطائفية والمظالم التي كان يتعرض لها الشيعة المقيمين والزوار في هذه المدينة المقدسة. فقد كانت نموذجاً يهديه المجدد الشيرازي لأبناء سامراء وللأجيال ايضاً، وهو يتضمن منهجاً متكاملاً من مدرسة أهل البيت، عليهم السلام، في التعايش ضمن المظلة الاسلامية، لمواجهة الدسائس والمؤامرات الخارجية التي تستهدف الاسلام كله، بغض النظر عن الطائفية والمذهب.
غلق الابواب أمام دسائس المستعمرين
كان البريطانيون يتحينون الفرص لإيجاد موطئ قدم لهم في العراق الذي كان تحت الهيمنة العثمانية، وكانت ملامح الأيدي البريطانية تبين واضحة في أي نزاع طائفي، حتى وإن كان بين شخصين وسط السوق او في أي مكان آخر. ومن جملة النزاعات التي كانت تحصل بين الشيعة والسنة، ما حصل بين من شجار بين رجل سنّي وعالم دين شيعي في سامراء، ولم تنته المشكلة بسهولة، إنما تطورت وجرت أعوان وأنصار من الجانبين، حتى بلغ الأمر لأن يقوم بعض المغرر بهم لأن يرشقوا بيت المجدد الشيرازي بالحجارة والإساءة اليه، فشاع الخبر في انحاء البلاد وكاد أن يتطور الموقف الى نزاع مسلح وفتنة طائفية خطيرة، لولا حكمة وتبصّر السيد الشيرزاي وقيامه بتطويق الازمة وتهدئة الخواطر بحنكة القائد والأب المصلح الذي يضع مصلحة الامة والدين فوق كل اعتبار. فكان أول المتدخلين؛ البريطانيون، فسارع القنصل البريطاني في بغداد للسفر الى سامراء بمعية القنصل الروسي، لإعلان تأييد حكومتيهما للمجدد الشيرازي، بيد أنهما لم يكسبا سوى الخيبة، لان السيد المجدد رفض استقبالهما وأبلغهما بالواسطة أن ليس هناك ما يدعو للقلق لقد حصل شيء ما بين ابنائنا ونحن قادرون على تجاوزه بالحسنى ولسنا بحاجة لمساعدة أحد.
وبغض النظر عن حجم التفاعل لدى أهالي سامراء مع مشروع التعايش الذي طرحه المجدد الشيرازي، فان المبادرة بسمتها الحضارية تحسب للحوزة العلمية، وتمثل نقطة مضيئة في التاريخ، كما يمثل التنكّر لها وصمة عار وبداية انحراف خطير يمكن ملاحظة مآلاته في أيامنا هذه، حيث التكفير وإلغاء الآخر من نفس الدين، بات العنوان الكبير للحروب الطاحنة التي نشهدها في أكثر من بلد اسلامي، وبسببه تزهق أرواح المئات بل الآلاف من الاطفال والنساء وتدمر قدرات وثروات دول بأكملها. والسبب في ذلك، استحسان رأي وخيار الاجنبي، من بريطانيين واميركيين وغيرهم من القوى الكبرى، على الخيار الداخلي – الاسلامي، لم يمثل ابداً، خطراً على المكوّن السنّي طول التاريخ، بل كان العكس هو الحاصل، حيث المخاطر والتهديدات والتحديات موجهة للشيعة والتشيع بشكل عام، اجتماعياً وسياسياً.
اضف تعليق