q

الانجازات الاقتصادية، والانتصارات العسكرية، والمكاسب السياسية، تجتذب خلفها عديد المدّعين بالوصل، وعشرات الآباء من رجالات السياسة والمعنيين بالشأن الاقتصادي والأمني، وكلٌ يتحدث أمام عدسات المصورين عن بطولاته و دوره المؤثر في تحقيق هذا الانجاز وذلك الانتصار، وربما يصل الأمر – من شدّة تزاحم الأدعياء- الى إلغاء هذا وضرب ذاك للحظوة بالمكانة الرفيعة بين الناس.

ولكن؛ نلاحظ دائماً، الخسارة والهزيمة وحيدة في الساحة لا أبَ لها، ولا من يتحلّى بالشجاعة على تبنيها. والسبب من الناحية النفسية واضح وطبيعي، كون الانسان محب للجانب الايجابي في العمل ولا يحب ان تلصق به شائبة او علامة فشل في حياته. وهذا ربما يكون مقبولاً على الصعيد الفردي، ويكون من حق أي كان الظهور أمام الناس بمظهر الناجح، لكن ماذا لو تعلّقت الخسارة والهزيمة بسمعة بلد ومصير شعب وكرامة الناس أجمعين؟

الشجاعة أمام الخسارة

عندما أجبر أمير المؤمنين، عليه السلام، على خيار "التحكيم" لوقف القتال مع جيش الشام بقيادة معاوية، عمّ حزنٌ شديد، مدينة الكوفة، فقد سقط المئات من الشهداء في صفوف الجيش الاسلامي، ومعظمهم من الكوفة، فظهرت أعداد كبيرة من الايتام والأرامل والأمهات الثكلى ، تثقل كاهل الامام، عليه السلام، كما تثير الأسى واللوعة في نفوس المقربين، حتى بلغ الأمر أن بدأ الامام يسمع همسات هنا وهناك في طرقات الكوفة بأن "عليك أن تجب عن الدماء التي سالت في صفين..."! وحدث ان استوقف أحدهم القائد المغوار، مالك الأشتر، وأساء اليه بكلام عنيف واتهمه بسفك الدماء في معركة صفين.

ماذا كان رد فعل الإمام إزاء ردود الفعل السلبية هذه؟ كان يتوجه الى المسجد ليصلي ركعتين الى الله – تعالى- طلباً للمغفرة لذلك المسيء او المنفعل بكلام او موقف. هذا للرجال ممن يصادفهم في الطريق، أما للنساء اللاتي فُجعن بأعزائهن، فانه كان يقوم بجولات تفقدية يحمل معه الطعام الى بيوت الايتام والارامل من شهداء صفين، وقصته –عليه السلام- معروفة للجميع مع تلك المرأة التي شكرته على مساعدته، ثم شكته ما لاقته من الامام علي، عليه السلام، وهي جاهلة لشخصه، وما قام به من ملاطفة الاطفال الايتام وسجر التنور للخبز، وهي تمثل درساً بليغاً في الانسانية والشعور بالمسؤولية. علماً أنه بحكم العقل والمنطق، لم يكن مسؤولاً عن الانسحاب أمام جيش الشام، إذ يعرف الجميع ما فعله "اصحاب الجباه السود" من الخوارج عندما ضللهم عمرو بن العاص، بالمصاحف المحمولة على أسنة الرماح، وقالوا: "لاحكم إلا لله"، ونفوا ولاية الامام علي، عليه السلام. ثم حصل ما حصل من فتح جبهة جديدة في جسم الدولة الاسلامية، سُميت فيما بعد بـ "معركة النهروان". مع ذلك فان الامام مضى في طريقه الحق معتمداً الثوابت من القيم والمبادئ، وهو ينشر ثقافة المواجهة والتصدّي لجبهة الباطل والانحراف.

هذه الشجاعة في مواجهة الواقع السيئ الذي خلقه الناس بخذلانهم وتقاعسهم، أحيا فيهم من جديد روح التصدّي والتضحية بين يدي الامام في معركة "النهروان" وحققوا النصر المؤزر على التكفيريين الأوائل من الخوارج، علماً أن اعداداً كبيرة منهم آبوا الى رشدهم وعادوا الى الطريق والى معسكر الامام، قبل وقوع السيف بين الجانبين، بعد ان اقنعهم الامام بسقم ما يذهبون اليه وأنه الامام الحق وهو القرآن الناطق، وأن ما يتحدثون به إنما هو "كلمة حق يُراد بها باطل".

الحل في حلّ العقدة النفسية

البحث عن الانتصارات الجاهزة والتهرّب من الخسائر، ينمّ عن وجود مشكلة نفسية تمثل فراغاً موحشاً يسعى صاحبها ملأه بالادعاءات، لتحاشي السقوط في وحل الهزيمة وتحمل المسؤولية، وهذا – بالحقيقة- يمثل امراً خطيراً آخر، إذ يكرس الهزيمة في النفوس بعد ان تكون على الارض، لأننا سنكون أمام انتصارات وهمية يرسمها هذا وذاك لنفسه، بأنه هو الذي قاد الجيوش والحشود وخطط وفكر وكان السبب في هذا وذاك.

هذه العقدة النفسية تمثل عقبة كأداء في طريق الانتصار الحقيقي الذي ترنو اليه الامة ويضحي من أجله خيرة الشباب. ويؤكد ذلك سماحة المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في كتابه "الصياغة الجديدة" عندما يتحدث عن "كيف ننتصر في المعركة"؟ بان "هناك عقبات نفسية كالجبن والاستسلام تمنع الانسان من العمل، فاذا خاف هذه العقبات لن يكون باستطاعته التخلّص من ربقة القيود والاغلال المفروضة عليه...". ويشير سماحته الى حقيقة أن التصدّي للقضايا الكبرى عليه أن يتوقع المواجهة العنيفة والحرب الضروس، لا أن يأتيه الانتصار على طبق من ذهب، أو ان يكون العدو سهلاً يسيراً.

ولو ألقينا نظرة خاطفة على الاوضاع الجارية في العراق، لوجدنا أن من يحقق الانتصارات الحقيقية على الارض، هم الرجال من ذوي النفوس الرفيعة والرؤى الشفافة التي تخترق الآفاق، فليس في قاموسهم الفشل او الهزيمة؛ إما النصر وإما الشهادة، فاذا احرزوا النصر، فهو فخرٌ للعراق ولجميع ابناء الأمة، لانهم يقاتلون "الخوارج الجدد" الذي يشكلون مرضاً فتاكاً في جسد الامة، وإن كانت الشهادة، فهي السعادة للإنسان والفوز بالجنان.

اضف تعليق