للدولة بمفهومها الحديث أركان تقوم عليها، حسبما يرى العلماء المختصون، ومن أهم هذه الاركان المجتمع، لذلك يظهر تأثر المجتمع في بناء الدولة واضحا، بل وحاسما في قضية نجاح الدولة وفشلها، وباختصار تشير الوقائع والتجارب، ان المجتمع الناجح يصنع دولة ناجحة، والعكس يصح تماما، لذلك يركّز العارفون في هذا الشأن على أهمية توازن المجتمع واعتداله، وابتعاده عن التطرف في الفكر والسلوك واتخاذ المواقف فلا يصح أن يكون حال المجتمع محصورا بين الخنوع التام والعنف المطلق، بمعنى عندما يغيب السلوك الوسطي سوف يعيش المجتمع حالتين متناقضتين تماما، فأما الخضوع المطلق للحاكم الجائر بكل قراراته الفردية الظالمة، أو أن يكون المجتمع عنيفا بصورة مطلقة في ردود افعاله تجاه الظلم الذي يقع عليه.
وهذا التذبذب بين العنف والاستكانة لا يمكن أن يسهم في صناعة دولة مستقرة، بمعنى أن المجتمع ينبغي أن يتخذ من الاعتدال والتوازن طريقا للحياة وهذه مهمة النخب المعنية بهذا الامر، واذا تحقق ذلك مع مرور الزمن، فإن المجتمع سوف يكون في هذه الحالة صانع الاستقرار، وهو المحفّز على التغيير والابداع والتجدد، وهذا هو الطريق الأمثل نحو بناء الدولة المدنية المستقرة، ولكن عندما تغيب حالة الاعتدال في الفكر والسلوك المجتمعي، ويصبح المجتمع خانعا أو عنيفا بصورة مطلقة، فإن هذا المنهج لا يمكن أن يسهم في بناء دولة مستقرة تسعى الى التطور والتقدم، بل هذا الجانب سوف يؤكد فشل الدولة وتراجع المؤسسات المعنية في بناء المجتمع، وعدم قيامها بمهامها، فضلا عن ضعفها وافتقارها للقدرة على البناء المجتمعي السليم، وهذه النتائج هي انعكاس حتمي لغياب الاعتدال المجتمعي.
ويرى أهل التخصص أن ثمة جوانب وعوامل ودوافع هي التي تأخذ المجتمع نحو التعصّب والتطرف في الرأي العام او السلوك، أو تجعله مستكينا وخانعا لأصحاب القرار، وفي كلتا الحالتين سيكون المجتمع هو الخاسر، أما الخنوع فهو نوع من السلوك السلبي، قد يلجأ اليه المجتمع في ظل مصادرة الرأي، واستخدام النظام السياسي الحاكم للقسوة والقوة المفرطة، في مقارعة الرأي والفكر والكلمة التي لا تتفق مع ثقافة واهداف الحكم، فعندما يصادر النظام السياسي حرية المجتمع، يهدف من ذلك الى حماية عرشه، ومكاسبه المادية المتمثلة بالنفوذ والجاه والقوة، والاستحواذ على المناصب والاموال، ونشر الفساد في مفاصل الدولة كلها، حتى يسهل على رموز السلطة سرقة الشعب ومصادرة حقوقه وحرياته، كل هذا يحدث بقوة القمع، وهذه الظاهرة تحدث في ظل الحكومات الفردية والانظمة المتسلطة، إذ لا يسمح الحاكم الطاغية، او الحكومة المؤتمرة بأوامره، بحرية الرأي، مستخدما القمع وسيلة له، وهذا قد يقود المجتمع الى الرضوخ، او العكس وهو الطريق الصحيح بطبيعة الحال عندما ينتفض المجتمع، لكننا في هذه الحالة نخسر الاستقرار، فبدلا من ان يكون المجتمع عاملا مساعدا على صناعة الدولة المستقرة، سوف يحدث العكس تماما، علما أن الخنوع في جميع الاحوال يعمل بالضد من بناء الدولة نفسها، عندما يصبح المجتمع عاجزا عن التأثير في مسار الانشطة المختلفة للدولة، لاسيما عندما تفشل السلطة التنفيذية في ادارة الملفات التي تعنى بشؤون المواطنين، مثل خدمات البلدية والصحة والتعليم، والارتفاع بالقدرة الشرائية للفرد، ومراعاة الجانب الترفيهي وما شابه، فاذا كان المجتمع عاجزا عن التعامل بحزم مع الحكومة، من خلال وسائل الضغط المتعارف عليها، متمثلة بالقوى الضاغطة (منظمات المجتمع المدني، والنخب كافة، والجماهير الكادحة)، فإن تراجع الدولة والمجتمع سوف يستمر في حالة التراجع والهبوط اكثر فأكثر، حتى تصاب الدولة كلها وجميع مفاصلها بالركاكة والتخلف والتدهور المستمر.
الخيار الآخر للمجتمع اذا كان يفتقر للاعتدال هو اللجوء الى العنف المطلق، واستخدم القوة في مقارعة السلطة، هذا السلوك ايضا يعيق الاستقرار على الرغم من كونه حق مكفول للمواطن اذا اهملته الحكومة، ولكن ليس هناك افضل من الاستقرار، لأن الدخول في صراع مع الحكومة يقود الى الفوضى ويشكل فشلا آخر للدولة والمجتمع ايضا، فالصحيح لا يتمثل باللجوء الى العنف المطلق، ولا بالخنوع المطلق، انما المطلوب في هذا المجال، تعضيد السلوك المعتدل القادر على تحقيق التوازن بين الحالتين، لكي تتم عملية بناء الدولة في ظل اجواء الاستقرار.
كذلك هناك دور اساسي للحكومة في تحقيق هدف الاستقرار، وهذا في الحقيقة جزء من الحلول التي ينبغي ان تلجأ اليها الدولة والمجتمع معا، لكي يتحقق نوع من التوازن، والابتعاد عن التطرف، لذلك على الحكومة أن تقوم بدورها على افضل وجه، لدعم الاستقرار، من خلال الاسهام بقوة ومنهجية في صناعة المجتمع المدني المتوازن، وهي قادرة على التعامل مع هذا الجانب الحساس بنجاح، فيما لو تم التخطيط له بفاعلية ونجاح، وتم تنفيذه بصورة دقيقة، حتى فيما يتعلق بدور المجتمع، هناك دور للحكومة في تنشيطه وتطويره، ولكن ينبغي أن يقوم ذلك على التخطيط المدروس والمنهجية العلمية.
ولا شك ان التعاون المتبادَل بين الحكومة والمجتمع سوف يقود الى نتائج سليمة بخصوص بناء الدولة المدنية المتطورة، وهذا يستدعي أن تتحرك الحكومة وفق خطوات عملية مدروسة، وموضوعة من لدن خبراء ولجان متخصصة، لكي تساعد على منع التطرف وعدم انتشاره بين مكونات المجتمع، ولابد أن تعمل فعليا على خلق اجواء وافكار الاعتدال في السلوك المجتمعي عموما، وهذا لا يتحقق في ليلة وضحاها، انما يحتاج الى تأسيس وتطوير وتخطيط مسبق وصبر وعلمية في التنفيذ، وصولا الى صناعة الدولة الناجحة.
اضف تعليق