بعد ليلة ضجّتْ بأحلام وكوابيس مزعجة، ينهضُ من فراشه كئيبا كالعادة، يتأفف، جسده خامل، قدماه بالكاد تحملان جسده، ذهب مباشرة إلى المرآة كي يرى وجههُ، بدا له مطليّا بالاصفرار، والتعرجات تملأ جبينه وأسفل عينيه ووجنتيه، حتى عيناه تبدوان منطفئتين لا بريق فيهما، يداه ذابلتان وأصابعه ترتعش بحركة متواصلة رتيبة...
بعد ليلة ضجّتْ بأحلام وكوابيس مزعجة، ينهضُ من فراشه كئيبا كالعادة، يتأفف، جسده خامل، قدماه بالكاد تحملان جسده، ذهب مباشرة إلى المرآة كي يرى وجههُ، بدا له مطليّا بالاصفرار، والتعرجات تملأ جبينه وأسفل عينيه ووجنتيه، حتى عيناه تبدوان منطفئتين لا بريق فيهما، يداه ذابلتان وأصابعه ترتعش بحركة متواصلة رتيبة.
روحه من الداخل مظلمة، التذمر من الحياة يأكله ويطيح به، فهو غير راضٍ على نفسه، ومنزعج أيما انزعاج من نفسه، لا يرى بريق أمل يلوح أمامه، منهزم من الداخل، حتى ضحكةُ أخيه الذي لا يزال طفلا تزعجهُ وتجعله أكثر تذمرا، والإنسان الذي تزعجه ضحكات الأطفال، هو مريض حتما، مرضه ليس عضويا ولا من النوع الظاهر، مرض خفي قد يكون من المستحيل اكتشافه ومعالجته.
راجع أطباء كثر، حاولوا مساعدته لكنهم فشلوا جميعا، وأخيرا زار أحد الرجال الحكماء بعد أن يئس من الأطباء، فأخبره الرجل الحكيم بأنه ليس مريضا ولا يشكو من شيء، لكن عليه أن يتغلّب على حالة التذمّر التي تهيمن عليه، ويجب أن يعرف أسبابها حتى يتحوّل من إنسان متذمر إلى إنسان متفاعل قانع وراضٍ عن مكتسباته وحياته.
هذا الصباح خرج من البيت مكتئبا، منطفئا، حزينا، متذمرا من كل شيء ولا يعرف لماذا بالضبط يرافقه هذا الشعور المزعج، كانت شمس الصباح رائقة وأشعتها الذهبية تلوّن أوراق الأشجار، لكنه لم يكن يرى الشمس ولا الأشجار ولا الحدائق، بل هو لم يسمع زقزقة العصافير ولا تغريد البلابل، إنه ببساطة لم يكن يرى إلا داخله المليء باليأس والظلام!
لم ينتبّه حتى لمجاميع الأطفال الصغار الذاهبين إلى مدارسهم، بوجوههم المشرقة وهم يرتدون ملابسهم بألوانها الزاهية، أصواتهم العذبة وهم يتراكضون فوق الأرصفة إلى مدارسهم لم تكن تجتذب سمعه، كل ما كان يسمعه ينطلق من داخله فقط، وداخله لا يُطلِق سوى نعيب البوم، وحين اقتربت منه طفلة صغيرة وقدّمت له وردة تضج بعطر الحياة، لم يأخذها منها لأنه لم يرَ الوردة، بل لم يرَ الطفلة وهي تقدم له أجمل الورود.
وحين أراد العبور إلى الجانب الآخر من الشارع، لم يتنبّه إلى الإشارة الحمراء التي تمنع المارة من العبور وتسمح للسيارات بالمرور، فقد حاول العبور بسبب غفلته وانشغاله بظلام نفسه، لكن أحد الرجال أمسك به وأشار له بأن إشارة عبور المارة حمراء ولا يجوز العبور، تنبّه إلى نفسه، وإلى الناس من حوله، ولاحظ إشارة الإضاءة الحمراء، وظل يترقب تحوّلها إلى اللون الأخضر، وحينذاك عبر مع العابرين إلى الجانب الآخر من الشارع.
وهو يخطو حزينا عابس الوجه على خطوط العبور، كان يعبر إلى جانبه رجل آخر، رجل من ذوي الاحتياجات الخاصة، يفتقد لساقيه، ويزحف على يديه بسرعة كي يتخلص من خطر السيارات، تنبّه صاحبنا المتذمر من حياته وجسده وروحه لهذا الرجل المُعاق الفاقد لساقيه، واستغرب رؤيته لتلك الابتسامة العريضة المشرقة التي كانت تغطي وجه الشخص الفاقد لساقيه وهو يسعى لعبور الشارع.
الرجل المتذمر سأل نفسه: أنا مكتمل الجسد والأطراف والتذمر والكآبة تكاد تشل جسدي وتدمّر حياتي، وهذا الرجل الفاقد لقدميه يعبر الشارع زاحفا على يديه وهو يتبسّم لي ولغيري، تُرى ما هذا التناقض الغريب بينه وبيني؟، وكيف يضحك ويتبسّم ويتفاءل وهو ناقص الجسد ويعاني من بطء الحركة، ويفتقد لقدميه، ولماذا أشعر باليأس زالكراهية لكل شيء وأنا إنسان مكتمل الجسد؟؟
لم يستطع أن يجيب نفسه عن سؤاله هذا، وحين أتمّ عبور الشارع، انتظر قليلا حتى وصل إليه الرجل فاقد القدمين، فقرّر أن يسأله عن سبب ابتسامته العريضة المشرقة رغم أنه يعاني من الزحف على يديه في تحريك جسده أثناء عبوره الشارع، فأجابه بسرعة وبلا تردد:
- شعرتُ أنني واحد منكم، لا أختلفُ عنكم بشيء، أنا قويّ من الداخل!!
صُدِم الرجل المتذمر بهذا الجواب الذي ظلّت أصداؤه وكلماته تتردد في سمعه، فيما واصل الرجل فاقد القدمين سيره نحو الأسواق القريبة، بوجه باسم مشرق وسلوك قويّ أجبر الرجل المتذمر على الوقوف في مكانه طويلا، متأملا، ومراجعا لتفاصيل هذا الموقف العجيب، إذ كيف لرجل بلا قدمين يتحلى بهذا الإصرار والقوة والتفاؤل، فيما هو مكتمل الجسد لكنه يعاني من الظلام الذي يتكدّس في أعماقه ويشل قدراته ويقتل تفاؤلَهُ؟
تلمّس الرجل المتذمر ساقيْه وقدميه، ثم تلمّس صدره ووجهه وشعر رأسه وذراعيه أيضا، نعم إنه بجسد مكتمل تماما لا نقص فيه، وكل ما يحتاج له هو أن يطرد التذمر والظلام من أعماقه وروحه، رفع رأسه فأبصر الرجل فاقد القدمين ينظر إليه ويلوّحُ له من بعيد بيديه مع ابتسامة سطعت في وجهه كأنها شمس الصباح، رفع الرجل المتذمر يده ملوّحا أيضا.....
وقرّر بدءاً من هذه اللحظة أن يتغلب على الظلام في أعماقه، وأن يصبح متفائلا بحياته مثل الرجل فاقد القدمين.....
اضف تعليق