q

في المفهوم العلمي، وضمن إطار علم النفس، أن لكل فرد إرادة مستقلة، في حالة عدم التأثير عليها، فإنها تبقى فاعلة في مجال تناقض الأهداف وتضارب الإرادات، ولو عرفنا أن عدد سكان العالم يفوق 7 مليارات، عند ذاك يمكننا أن نتخيل (فوضى) صراع الارادات في العالم، وعندما نختصر الأفراد الى جماعات، ضمن أمم وشعوب ومجتمعات، ثم دول، تحت تأثير الايدولوجيا، والعِرْق، والدين، والفكر، فإننا لن نتخلص من صراع الإرادات بهذه الطريقة، بل يصبح الصراع اكثر تنظيما وقوة واستفحالا، بمعنى بدل من يكون الصراع ضمن ارادة الافراد، سوف يتضخَّم ليصبح ضمن ارادة الجماعة، الامة، الدولة، وهنا سوف تكون نتائجه أكثر خطرا وأشمل.

من هذه المقدمة نستطيع أن نفهم أن تحييد الصراع العالمي أمر يدخل في عداد المستحيل، بحسب علماء النفس والسياسة والاجتماع، والسبب في ذلك أن جميع الانشطة البشرية، قائمة على التنافس وهي درجة أقل من الصراع ولكنها تبقى مؤهلة للتصاعد دائما، ولا سبيل للقضاء على هذه الطبيعة التي تفرزها تركيبة الانسان النفسية، العقلية، والفكرية، وحتى الغريزية منها، بمعنى أن الانسان لكي يستمر في بناء نفسه وعائلته ومستقبله، ليس امامه طريق سوى الصراع، الذي قد يتحول في بعض الاحيان الى نوع من التصادم الخطير بين الارادات والافكار، والتي قد تتحول بدورها الى صراع مادي ملموس.

لذلك عالمنا اليوم، مدعو أكثر من أي وقت مضى، الى وضع القواعد والضوابط الدقيقة التي تحاصر الصراع ولا تقضي عليه، ذلك أن التنافس والصراع لا يتعلق بجهد الفرد فقط، بل يتعداه الى جهد الجماعة، والمجتمعات، بل والامم ايضا، لذلك عندما نحاول قمع الصراع بالقوة، سنلاحظ استنادا الى النتائج التي تتمخض عن جهدنا، ان ما نقوم به في هذا الاطار ليس هو الاسلوب الصحيح، لان الصراع يتعلق بتناقض الاهداف والارادات، وهو سمة من سمات الكائنات لاسيما البشر، وهو أمر يدخل في البناء التكويني والنفسي للانسان فردا كان او جماعة، لهذا يقول العلماء المختصون أن فشل الدكتاتوريات في البقاء، يعود الى حالة القمع التي يتبناها الحاكم المنفرد بالسلطة، لان الدكتاتوريات قائمة على قمع الاخر وإلغائه، وهذا خطأ فادح قد لا تظهر نتائجه مباشرة، لكنها تؤدي في اخر المطاف الى نتائج عكسية تماما، وهكذا الامر في المؤسسة والأسرة والدائرة الصغيرة والمعمل والمدرسة وما شابه.

وكما نلاحظ أننا نعيش اليوم عالما متعدد الارادات، وأن مركز القوى باتت واضحة، وأنها تستقطب قوى اصغر استنادا الى المصالح، وهذا دليل قاطع يؤكد أن الصراع قائم، وانه في حالة تصاعدية عاماً بعد آخر، ومع ذلك كما يؤكد العارفون، لا يصح قمع الصراع بالقوة، كونه الطريقة التي تديم التطور والارتقاء والتقدم وتضفي خطوة اخرى الى الامام حتى في اطار القوة، أما المعالجة الصحيحة فهي احتواء الصراع بطرق لا علاقة لها باستخدام القوة، او المساعدة باستمرار المواجهات بين الارادات المتضادة، لذلك ليس امامنا سوى محاصرة الصراع وليس القضاء عليه،، وذلك من خلال انتهاج اساليب مدروسة علميا، منها عل سبيل المثال أهمية تشجيع حالات التنافس كبديل مناسب جدا لأنواع الصراعات كافة، في ظل مسار او منهج لا عنفي يقبل الصراع والتنافس السلمي الذي يقود الفرد والجماعة الى الابداع والابتكار والانتاج الافضل دائما، وهو امر يمكن أن يكون متاحا ومقبولا لمركز القوى العالمية المتعددة، في حال لمست أن التنافس بينها يقودها الى الاهداف ذاتها التي تحاول ان تصل إليها باسلوب الصراع، والسؤال هنا هل يمكن للتنافس ان يحقق النتائج نفسها التي تحققها الصراعات؟؟.

نعم يمكن لحالات التنافس المدروسة أن تقوم بهذا الدور، لأن معظم المواجهات الخطيرة التي حدثت في العالم كانت تحدث بسبب غياب منهج الاحتواء اللاعنفي للصراع او التنافس، واندفاع ارادة الفرد القائد الطاغية والجماعة المؤيدة له، نحو حالات التصادم وإشعال فتيل القوة الغاشمة والحرب كما حدث في حروب طاحنة حدثت في التاريخ المنظور والبعيد معا كما هو معروف للعالم أجمع، كذلك يحدث هذا على الصعيد الفردي، حيث يتصارع الافراد من اجل الوصول الى اهداف معينة، يمكن تحقيقها بأساليب المواجهة اللاعنفية، وطالما أن الصراع الفردي يمكن أن يتحول بالتراكم الى صراع جمعي، فينبغي إذاً أن يتحاشاه العالم، وهذا يستدعي من الجميع الاعتراف بالآخر ضمن (آلية الاحترام المتبادَل).

كذلك ليس أمام البشرية سوى الإقرار بوجود حالات التناقض والاختلاف وتضارب الارادات الافراد والجماعات، وليس بالغائها، لذلك ينبغي على مراكز القوى في عالم اليوم أن تعترف بوجود الاختلاف وصحته، وأن لا تذهب لاستخدام أساليب القوة في إلغاء الصراع او تحجيم الفكر والإرادة المناقضة بالقوة، بل ينبغي أن تبقى حالة التنافس قائمة وعلى ذوي الشأن رعايتها، وينبغي ايضا فهم حالة الصراع على انها أمر طبيعي تنطوي عليه ذات الانسان وتركيبيته التكوينية، ولكن على القادة أن لا يدفعوا الامور نحو المواجهة الساخنة، او التصادم العنيف الذي قد يؤدي الى خسائر في الارواح والممتلكات وما شابه، وهذا يستدعي الرضوخ لمنطق الحكمة والعقل قبل أي شيء آخر، وهو أمر منوط بالقادة العقلاء في عموم العالم ومدى قدرتهم على استيعاب الدروس الجسيمة التي خلفتها الحروب العالمية الماضية، أو مظاهر العنف التي لا تزال تتفاقم وتجتاح بقاعا واسعة من المعمورة، لاسيما المناطق الرخوة اجتماعيا وثقافيا، تلك التي تكون اكثر من سواها تعاملا مع الصراع بدلا من التنافس.

اضف تعليق