q

جاء في المواصفات المثالية للمثقف، أنه الميزان الدقيق الذي يزن الرأي والموقف المتوازن، فهو كما يصفه العارفون، غالبا ما يتحلى بعقل راجح، يتكئ على خزين معرفي ومعلوماتي، وخبرة فكرية تزن الاحداث والمواقف والافكار، ثم تثبّت رأيا يظهر للعلن، ليعبر عن وجهة نظر وموقف يجد قبولا وترحيبا من لدن الآخرين، لسبب واضح، أن العقلية التي تقف وراء مثل هذا الرأي تعود لقامة مثقفة موثوق بها، ولا يختلف بشأن نزاهتها اثنان، ولعلنا لا نبالغ ولا نذهب بعيدا، عندما نقول أن التاريخ الفكري والثقافي للبشرية، وضع المثقف الحقيقي في مكانة يستحقها، ولكن المشكلة في هذا الجانب تكمن في المثقفين الطارئين، أولئك الذين ينسبون أنفسهم للثقافة بحيث يُصعَب فرزهم بصورة دقيقة.

ومن أهم السمات التي تميّز المثقف الحقيقي، انه لا يحدد مواقفه من دون قواعد ثابتة يضعها مسبقا، وتكون هي المعيار الذي يصنع له موقفا أو رأيا بصدد قضية معينة، ثقافية او سياسية او اجتماعية، ولذلك في الغالب يبتعد المثقفون الموثوق بهم عن تكوين الحكم المسبق على الافكار او المواقف وحتى الافعال، ربما ينطوي على نسبة كبيرة من الخطأ تصل احيانا الى درجة الفرق بين الابيض والاسود، لذلك ينصح المعنيون بأن الاحكام مهما كان نوعها يجب أن تنطلق من المعايشة الفعلية للموقف، والنتائج الملموسة للافكار بعد استنفاذ التجربة بكل ابعادها، بعيدا عن التصورات المسبقة التي تذهب بالرأي وصاحبه بعيدا عن الحقيقة والمواقف الصائبة، لاسيما أنها تصدر عن شخصية مثقفة يُحسب لها حسابها الكثير، سواء من المسؤولين أو من عامة الناس.

لذا يُنظر للمثقف الحقيقي، كونه ميزانا دقيقا يزن الامور والقضايا الحساسة قبل اطلاق الرأي عنها، ويتبعه في ذلك كثيرون، نتيجة للثقة التي يمنحها الناس له لرجاحة عقله وعمقه الفكري وبعد نظره، وتفسيره للامور والمواقف كافة، استنادا الى معطيات نزيهة وسليمة، تنبثق من ثوابت تتقدمها الانسانية اولا وسلامة الفكر ونقاء العقيدة، وهذا كله يعد محصلة لثقافة واعية، ومع ذلك نلاحظ ظاهرة تلوح في الافق الفكري والثقافي لا تمت للمثقفين بصلة، وأعني بها حينما يكون المثقف صاحب موقف مسبق من هذا الفكر او ذاك، ومن هذه النظرية او تلك، وربما من هذا الشخص او ذاك، لذلك نلاحظ أن بعض المثقفين ممن يعلنون انتماءهم للثقافة، يعانون من اطلاق الاحكام المسبقة، وهي حالة تعد مرضية كونها لا ترتكز الى الحقائق، فضلا عن انها تنطوي على التعجّل وعدم الدقة في اتخاذ الموقف او الرؤية من هذا الفكر او ذاك، وهذه مشكلة يعاني منها مثقفون يحسبون على الثقافة ولكنهم في حقيقة الامر يتسمون بالعجالة وعدم التمييز بين الغث والسمين من الافكار والرؤى والمواقف.

في هذا الصدد ليست هناك حدود فاصلة بين المثقف وبين من يؤمن به من افكار، إلا ما يتناقض مع المبادئ الانسانية، ومع ذلك نلاحظ اتخاذ مواقف مسبقة من بعض المثقفين تتناقض مع هذا المبدأ، فمثلا هناك بعض المثقفين يتخذون موقفا مسبقا من الدين ومن المتدينين ايضا، لا يقوم على فحص التجربة ولا تنطلق احكامهم من الواقع او الحقيقة، نعم هناك اخطاء تحدث هنا وهناك ويتخذ بعضهم من الدين غطاءً لإخفاء او تمرير اخطائهم، ولكن ينبغي الحكم على التجارب بعد استنفاذ فرصتها، ولا يصح إلغاء الاخر وفكره وطروحاته لانه ذو علاقة بالدين، مثلما لا يجوز للمتدين أن يلغي الليبرالي، فالقضية هنا لا تتعلق بنوع الفكر بقدر ما تتعلق بجوهر ومدى تناقضه مع الفكر الانساني، لذلك عندما يكون المثقف الذي ينسب نفسه الى الليبرالية، ذا موقف مسبق من المتدين ويلغيه من دون أن يحتك به ويعرفه عن قرب فكرا وسلوكا، فإنه يعطي مبررا واضحا للمتدين كي ينتهج النهج نفسه، ويلغي الليبرالي فكرا وسلوكا ايضا، وهكذا تكون عملية الالغاء متبادلة بين الطرفين، ويكون الخاسر هو الانسان والمجتمع بطبيعة الحال.

من هنا مستحسَن أن يتحلى المثقف بالمعرفة المسبقة والاحتكاك المباشر، والمعرفة عن قرب، قبل اطلاق الاحكام المسبقة، وهناك من يعترض على الافراد او الشخصيات او المكونات الفردية والجماعية، بمجرد انتمائها الى هذه الجهة او تلك، حتى قبل قراءة الافكار وفهمها ومدى قربها او بعدها عن القواعد الفكرية السليمة، وهذا دليل قاطع على ان الاعتراض لا يتعلق بجوهر الكلام او الفكر، اذن هو صاحب موقف مسبق، فإذا كان معارضا للفكري الديني وما ينتج عنه، فإنه سيقف بالضد في جميع الحالات بغض النظر عن المضمون الفكري للنص الديني، وهذا ما يبرر حالة الالغاء التي قد يلجأ إليها رجل الدين، او المتدين للفكر الليبرالي على سبيل المثال، لذلك ينبغي الاهتمام بطبيعة المضمون الفكري للنص او القول، ولا يصح أن نتخذ موقفا مسبقا من هذا القول و ذاك او من هذه التجربة او تلك، قبل ان نفهم جوهرها.

لذلك من الواضح أننا سوف نتمكن بهذه الطريقة السليمة أن نتخلص من عبء هذه الظاهرة، التي تؤذي أكثر مما تنفع، لأنها تقودنا الى توترات كثيرة، نتيجة للتضاد بين الافكار والمواقف، علما ان الاختلاف لا يسبب مشكلة، بل سيحدث العكس تماما حينما تتلاقح الافكار، وهكذا مطلوب التخلي من لدن المثقفين عن ظاهرة الاحكام المسبقة، للاسباب التي وردت آنفا، خاصة اذا آمن المثقفون أن الاختلاف حالة صحية وهو لا يعني الخلاف في اي حال من الاحوال، ولا شك أننا وفق هذا الاسلوب الجاد سوف نتخلص من ظاهرة تنتج عن الحكم المسبق، وهي ظاهرة إلغاء الآخر التي تتسبب في خلق بؤر احتقان فكرية وعقائدية، فضلا عن تشجيع حالات التطرف والتعصب هنا وهناك، في الوقت الذي نحتاج فيه الى التوازن والتماسك كوننا نمر في مرحلة نحتاج فيها الى الابتعاد التام عن حالات التصادم الفكري او سواه.

اضف تعليق