ما رأيك أن نبدأ باعتراف متبادَل لذنوبنا بالتناوب، مرةً أنتَ تحكي لي أحد ذنوبك وفي الجلسة التالية أنا سوف أعترفُ لك عن أحد ذنوبي، وقبل أن أسأله عن سبب هذا الاعتراف المتبادَل، قال: لقد بلغتْ صداقتنا حدّ الصراحة المتناهية بيني وبينك، كما أن استذكار ذنوبنا وأخطائنا...
اتفاق قد يبدو غريبا عقدناه معاً أنا وصديقي المقرَّب قبل أن تجتاح جائحة كورونا العالم، كنا نرتاد مقهى (باريس) بتوقيت نصف أسبوعي، نلتقي بعد العشاء، نتحاور، نتبادل الأفكار، وفجأة خطرت في بال صديقي فكرة غريبة وطرحها عليَّ بالطريقة التالية بلا تردّد:
- ما رأيك أن نبدأ باعتراف متبادَل لذنوبنا بالتناوب، مرةً أنتَ تحكي لي أحد ذنوبك وفي الجلسة التالية أنا سوف أعترفُ لك عن أحد ذنوبي.
وقبل أن أسأله عن سبب هذا الاعتراف المتبادَل، قال:
- لقد بلغتْ صداقتنا حدّ الصراحة المتناهية بيني وبينك، كما أن استذكار ذنوبنا وأخطائنا سوف يمنحنا حصانة وحماية ضد الوقوع في الأخطاء وارتكاب الذنوب، ويمكن أن ننقل ذلك لأبنائنا والمحيطين بنا، فالذنوب مدرسة للناس جميعا!
وافقته الرأي من دون تردد وطلبتُ منه أن يبدأ يحكي لي ذنبهُ وفي الجلسة التالية من الأسبوع سوف أحكي له ذنبي.
وافق صديقي وبدأ يقص لي ذنبا ارتكبه قبل عشرات السنين حين كان يعمل في تجارة التمور الرائجة أنذاك، فقال:
- حين بلغ عمري ثلاثين سنة، فكّرتُ أن أعمل في تجارة التمور، لأنني بلغت الثلاثين ولم أجمع ثروة تُذكَر، وبالفعل جمعت رأسمال من هنا وهناك وبدأت أشتري التمر في موسم إنتاج التمر، وقمت بتأجير (علوة) جمعت فيها عشرات الأطنان من التمر، كنتُ أشتريها بسعر أدني وأقوم باحتكارها إلى وقت قادم، وأبيعها بضعف سعر شرائي لها، وهكذا يتضاعف رأسمال وأحصل على أرباح جيدة، إنها أشبه بالمضاربات أو الصفقات التي تفشل أحيانا تبعا لأسعار السوق وتذبذبها وتبعا للعرض والطلب، فحدث أن خسرت وربحت وخسرت بالتناوب.
في ذلك الوقت كان عندي صديق مقرّب مني جدا، فعرفت إنه يمتلك مبلغ جيد من المال يمكنني إقناعه كي أستثمره له بسبب وثوقهِ التام بي، بالفعل حصلت على المبلغ المذكور من صديقي وقمت بشراء كميات من التمر بكل المبلغ العائد لصديقي وبعد أن خزّنته لشهور ارتفع ثمنه وحصلت على ربح يقارب 50% خمسين بالمئة زيادة على رأس المال، وحين انتهى موسم جنيّ التمر والتجارة به، طالبني صديقي بإعادة المبلغ الذي أخذته منه مع الأرباح، لكنني طمعت بالربح، وأعدتُ له مبلغه فقط، وأخبرته أن الأسعار لم تتحسن واعتذرتُ منه، ولأنه يثق بي وبصداقتي لم يحاججني ولم يعترض، بل شكرني لأنني أعدتُ له نقودهُ بعد شهور.
الربح الذي حصلتُ عليه من صديقي لم يكن مالاً حلالا، كنتُ أعرفُ هذا جيدا، وكنتُ أعرف مسبقا أن صديقي ليس شريرا ولن يشكّ بي قيد أنملة ولن يطالبني بأرباح مقابل استثمار فلوسهِ من قبلي، ومع ذلك تغلَّبتْ نفسي عليَّ وازدهر الجشع في قلبي، ولم أكن أمينا مع صديقي وكان حريّا بي أن أكون إنسانا وصديقا وفيّا له، لكن نفسي وسوست لي وجرى ما جرى، نعم رأيت علامات الريبة والحزن في وجه صديقي لكنه لم يطالبني بشيء وحمدَ الله لأنني أعدتُ له نقوده.
بعد يوم لا أكثر احتجتُ لابن أختي كي يكون معي في مشوار عمل، وهو الوحيد لأمه التي رجتْ مني أن لا أصطحب معي ابنها كونه كان هاربا من الجيش، وأن السلطات تشن حملات تفتيش مستمرة، وإذا تعرض ابنها للاعتقال بسبب هروبه من الجيش سوف أكون سببا في سجنه أو حتى إعدامهِ وهو الوحيد لها، لم أهتم بما طلبته مني أختي، واصطحبتُ معي ابنها غير مبالٍ بمناشدات أختي ولا بمصير ابنها، وبالفعل حين وصلنا (علوتي) كي نشتري ونبيع التمر داهمتنا مفرزة عسكرية مدججة بالسلاح وألقت القبض على ابن أختي الذي بات رهين الحبس ومصيره قد يصل حد الإعدام، وبعد ساعة من اعتقاله اضطررتُ للاتصال بأحد أمراء السلطة وأخبرته باعتقال ابن أختي من قبل مفرزة عسكرية وطلبتُ منه التوسط لإطلاق سراحه بأية طريقة كانت.
لا أدري من أخبر أختي بما حدث، فاتصلتْ بي تلفونيا واندلعَ صوتها وهي تصرخ وتبكي وتستنجد بي، وتصيح بأعلى صوتها: أنت السبب في ضياع وموت ابني الوحيد.....
بعد دقائق اتصل بي الشخص الذي توسطتُ لديه كي يطلق سراح ابن اختي وأخبرني إن آمر السجن طلب مبلغا كبيرا مقال إطلاق سراحه، وحين سألته كم المبلغ المطلوب فعرفتُ أن المبلغ يعادل ما ربحتهُ من رأسمال صديقي، أو بالحقيقة ما سرقتهُ من صديقي، وبالفعل أخرجتُ مبلغ الربح الذي حصلت عليه من أموال صديقي وسلّمتهُ للسلطة وتم إطلاق سراح ابن أختي..
ثم ختم صديقي حكايته عن أحد ذنوبه بالقول:
- ما يأتي من كسبٍ حرام سيذهب في نفس الوقت إلى الحرام..
ثم قال جملة أخيرة لا تزال ترنّ في سمعي:
- لقد خسرتُ الربح الذي حصلتُ عليه بخداعي لصديقي حين كذبتُ عليه وسرقتُ الأرباح لي طمعاً وجشعاً، والأمرُّ والأدهى أنني خسرتُ صديقي وصداقته وثقتهُ بي.. بل وخسرتُ حتى نفسي.
اضف تعليق