للمقاهي الثقافية والأدبية تاريخ معروف، في كثير من البلدان والعواصم الكبيرة والصغيرة، والمدن الأقل حضورا نجد المقاهي لها حضورها وفعلها الثقافية المهم، بل حتى المقاهي العامة، التي تستقطب عامة الناس، نلاحظ أن الزبائن او الرواد يتعاملون معها كمكان مناسب لقضاء وقت ممتع ومفيد في الوقت نفسه، ولعل القول الذي سمعته ذات يوم من رجل بسيط لا ينتسب ولا يُنسِب نفسه للمثقفين هو قول مناسب وصحيح، عندما قال (المقهى أكثر مكان يثير شهية القراءة لدى الانسان) وهذا ما يفسر فعلا ظاهرة مطالعة الصحف اليومية والدوريات والمجلات والكتب في المقهى، باعتبارها بؤرة للثقافة، يلتقي فيها المثقفون والمفكرون وعامة الناس ايضا.
ولا يمكن أن نتعامل مع المقهى كمكان لملء الفراغ، فهي في الحقيق مركز لتجميع الافكار وتلاقح العقول وتفاعل الافكار، نعم نحن نفهم أن الوقت الفائض يمثل مشكلة للانسان، لاسيما في المجتمعات التي تعاني من سوء التنظيم، في مجريات الحياة، وغالبا ما ينشأ هذا الوقت، من ضعف الثقافة والوعي الشعبي وندرة فرص العمل المناسبة وعجز الدورة الاقتصادية على استيعاب الطاقات، لذلك ينسحب هذا العجز بدوره على عموم المجالات، فيطول العملية الانتاجية والفكرية معا، وذلك بسبب الفوضى التي تحدث بغياب التنظيم الناجح لقدرات الدولة والمجتمع، في ميادين الاقتصاد والسياسة والتعليم وغيرها، لذلك نلاحظ ان المجتمعات المتطورة تستثمر كل شيء متوافر لديها من اجل دفع عجلة التطور الى امام، ومن هنا تأتي مكانة المقاهي المتميزة ثقافيا في مدن عالمية مهمة لها حضورها الراكز.
لذلك نلاحظ أيضا أن الشعوب التي تعجز عن تنظيم قدراتها، غالبا ما تقضي الجماعات والافراد المنتمية لها، أوقاتها الفائضة بصورة لا تخدمها، ولا تسهم في تقدمها، او ازدهارها، ليس هذا فحسب، بل غالبا ما تأتي فوضى التخلّص من الزمن الزائد الفراغ، بنتائج تضرّ بالفرد والمجتمع معا، فالفراغ لابد أن يتم التعامل معه بطريقة أو أخرى، وفي حالة غياب المنهجية الجيدة، في التخلص من الفراغ، تنشأ النتائج السيئة التي تنعكس منه، وتنمو وتتطور، لتصبح من المشكلات المستعصية في المجتمع، والتي غالبا ما تقود الى الانحراف الجماعي والفردي، وهذا تحديدا يستدعي تحول المقاهي الى بؤر ثقافية مشعة، تطور الفكر، وتضاعف من توقّد العقول، وتُسهم لصورة فعالة في نشر الوعي والثقافة المعاصرة بين الجميع لاسيما الطبقات الدنيا في المستوى الثقافي.
وهكذا تُعَدّ المقاهي من أهم وسائل تفتيت الزمن الفائض، التي ابتكرها الانسان، كونها يمكن أن تتحول الى بؤرة مشعّة للثقافة، فقط يحتاج الامر الى ارادة وتخطيط قد يقف وراءه فرد واحد احيانا، لهذا نجد مقاهٍ كثيرة تستقطب روادا، وزبائن، لهم اهتمامات محددة، فهناك مقاهٍ لكبار السن، يتداولون فيها ذكرياتهم، ويقضون فيها اوقات فراغهم الطويلة، وهناك مقاهٍ للرياضيين، وأُخَر للمثقفين، والادباء، ومثلها لتدخين الأرجيلة على الرغم من اضرارها الصحية، ولكن على العموم تعد المقاهي علامات فارقة في المدن والعواصم، كونها بؤر تستقطب وتبث الثقافة في وقت واحد .
لكننا لاحظنا أن المقاهي عندما تبتعد عن كونها بؤرة للفكر، فإنها في هذه الحالة ستكون عديمة الفائدة، وافضل ما يمكن ان تقدمه هو تزجية الوقت وقتل الفراغ بلا طائل، وهذا يحدث في الغالب، في المجتمعات غير المنتجة، حيث تكون المقاهي ذات نتائج سلبية، وقد تصبح بؤرا للانحراف بصوره وأشكاله المتنوعة، لكننا لابد أن نستثني المقاهي التي يرتادها المثقفون وكبار السن، او مقاهي الترفيه الجيدة، فهذا النوع ينتمي الى الأمكنة المشعة ثقافيا وفكريا.
لذلك يدعو عدد من المفكرين الى تحويل المقهى من كونه مكانا لقتل الوقت الى إحياء الفكر وتنمية العقول، ويتساءل هؤلاء تُرى ألا يمكننا أن نبدأ بمشروع إنشاء مقاهي ثقافية تهتم بالمطبوعات، وتطويرها ونشرها في عموم المدن، حتى يصبح بمقدور الانسان، أن يقضي وقته الفائض مع المعرفة والعلم وزيادة الوعي؟، بالطبع توجد مقاهي يمكن أن نطالع فيها صحيفة الصباح، او المساء، او بعض المجلات، التي تُلقى هنا او هناك مصادفة، ولكن مثل هذا الامر غالبا ما يكون عابرا، ولا يشكل خصيصة، او تقليدا متعارفا لهذه المقهى او تلك، نحن نتحدث هنا عن إنشاء المقاهي الخاصة بالقراءة والاطلاع الدائم على الكتب، والدوريات، والاصدارات المتنوعة، حيث تصبح القراءة هي الدافع الوحيد لاستقطاب الزبائن، لمثل هذه المقاهي، مثلما نرى الآن بعض المقاهي التي تتخصص بتقديم خدمات محددة، يبحث عنها الشباب او الكبار وغيرهم، كالأرجيلة، والقهوة، والشاي، والعصائر وما شابه، في الحقيقة نحن نعتقد بأهمية مثل هذه المبادرات، فحينما يدخل الزبون الى مثل هذه المقاهي، يُستحسن أن يجد نفسه في الاجواء التي تساعده على التواصل مع المعرفة، وهذا ما ينبغي أن يحرص عليه القائمون على مثل هذه المقاهي، حيث يتم توفير الكتب بأنواعها، وبمختلف اهتماماتها، وتخصصاتها، فتقدم المقهى لزبائنها كل ما يمكن تقديمه، من صحف يومية، ومجلات اسبوعية الى الدوريات الشهرية، ناهيك عن الاصدارات المتنوعة في الآداب والعلوم والدين والصحة وغيرها، فضلا عن توفير الكتب الفكرية والفلسفية والدينية وما شابه، بالاضافة الى ذلك، يمكن لمثل هذه المقاهي أن ترعى بعض النشاطات الثقافية، والمعرفية المتنوعة، فتقيم الاماسي، والندوات، والمسابقات وما شابه، وكل ذلك يمكن أن يشكل وسائل استقطاب للرواد، ويساعد على التقريب والتواصل بين القارئ والكتاب، وتكون النتائج مشجعة للطرفين، فالزبون يجد ضالته في هذه المقهى المتخصصة، بتوفير الكتب بأنواعها، مع توفير الاجواء القرائية المطلوبة، أما المقهى نفسه، فسوف يحصل صاحبه على مردود مادي مربح، وهكذا تكون الفائدة متبادلة بين الطرفين المباشرين، المقهى والزبون، فضلا عن الفائدة الاهم والاوسع، التي تتمثل بصناعة ظاهرة حب القراءة والمعرفة بين جميع الناس، ونشرها في عموم المدن، وأخيرا ترى هل نحن بحاجة الى تحويل المقهى من مكان تسلية بحتة، الى بؤرة ثقافية تمنحنا جرعات جيدة من التسلية التي تمتزج بالأفكار الجديدة والمتطورة؟.
اضف تعليق