وحين سألته لقد أخرجوك من التعليم عنوة بحجة السنّ التقاعدي قال، سأواصل العمل حتى آخر لحظة من حياتي، وإذا أُغلِقت أبواب التدريس والتعليم بوجهي، بحجة التقاعد، وهي حجة واهية وغير سليمة، فإنني سأحرص على العمل في المكان الذي يناسب خبراتي ومؤهلاتي العلمية والجسدية حتى آخر يوم من حياتي...
وجههُ يضجّ بالحياة، كل علامات الصحة والعافية تسطعُ فيه، حتى بياض شعر رأسه يدل على وسامة من طراز خاص، نبرة صوته القوية الرخيمة تدل على أنّه إنسان حيوي يحب الناس والنجاح ويتمناه للجميع، بدا ذلك ليس في مظهره المنتمي إلى الجمال والأناقة، بل في أقواله وحكاياته التي سحرتْ المستمعين له وهم مجموعة من الركاب جمعتهم به رحلة في سيارة أجرة من مدينته إلى بغداد!.
كنتُ أجلسُ إلى جانبه، وكان وجههُ المشعّ بالعافية قريبا من عيني، وكان صوته المحبّب الهادئ الواثق يطرقُ طبلة أذني قبل الجميع، لم أكن أنا الوحيد الذي سُحِرتُ بحكاياته التي عاشها قبل 40 سنة في ألمانيا الشرقية قبل اندماجها مع الغربية بعد تحطيم جدار برلين، وبعد أن توقّف عن الكلام انتهزتُ الفرصة وسألته عن عمله وإلى أين ذاهبٌ الآن، فأجاب بأنه تدريسي أحيل على التقاعد وهو في طريقه إلى هيأة التقاعد العامة لإكمال معاملة تقاعده!.
شعرتُ بالحزن وأنا أنظر إلى مجموعة الأوراق التي يحتضنها بحرص بيديه ويحفظها بين دفتي ( فايل أحمر)، عرفت أنها أوراق تخص تقاعده وهو لا يزال بهذه القوة والحيوية والقدرة على العطاء، فسألته:
- هل أنت راغبٌ في الإحالة على التقاعد؟. فأجاب:
- كلا بل هو القانون الجديد المجحف الذي أجبرني وكثيرين غيري على التوقّف (عن الحياة)، علما أنّ هناك طاقات كبيرة وخبرات هائلة من الخطأ الجسيم إحالتها على التقاعد بحجة تقدم السنّ.
وواصل كلامه:
أنا مثلا بلغتُ الستين الآن، لكنني لا أعاني من أية أمراض مزمنة، ولديّ طاقة هائلة على العمل وحتى القيام بنوع من الرياضة المتعبة مثل كرة القدم، كذلك لديّ خبرات اكتسبتها من وجودي خارج العراق حوالي عقدين من الزمن، رأيت بعيني كيف يعيش الناس هناك، كيف يتعاملون مع بعضهم، ومعنا نحن الغرباء الذين لم نشعر بغربتنا بينهم بسبب المعاملة الإنسانية التي تلقيناها منهم.. وأضاف...
في لحظة إزالة جدار برلين الفاصل بين ألمانية الشرقية والغربية كنتُ هناك، ورأيت كيف احتضن الألمان من الجانبين بعضهما بعضا، وكيف انعدمت الأحقاد كليّا بينهما، وكيف كان التسامح سماء تظلل الجميع، فالمؤامرة الخارجية التي فصلت الشعب الألماني إلى شقين (شيوعي، رأسمالي) لم تستطع أن تدقّ إسفين الخلافات والضغائن بينهما، فما أن تم تهديم الجدار حتى التأم شمل الجمع بين الشعب الواحد وكأنّه لم يُفصَل عن بعضه!.
وأكمل التدريسي حكاياته على الركاب وأنا من بينهم:
قبل أربعين سنة رأيت في ألمانيا ما لم أره حتى اليوم في أية دولة إسلامية، فالطفل حين يولد تتعهدهُ الدولة، تكاليف وتربية وتعليم وصحة، عائلته لا تصرف عليه، الدولة هي من تتكفل مواطنيها منذ الصغر، هنا في بلداننا العائلة والأب تحديدا هو الذي ينوء بثقل مسؤولية التربية والصحة وتكاليف التعليم وسواها.
في المدارس يتعامل المعلمين من طلابهم بمنتهى الصدق وبأرقى القيم التي وضعها الإسلام كقوانين وتعاليم لتنظيم الحياة بكل تفاصيلها، هم يرسخون الصدق والابتعاد عن الخداع والغش، والتشجيع على التميّز والتفوق، فرأيت طلاب الصف جميعا شعلة متدفقة من الذكاء والرغبة في حب العلم والتعلّم.
هذه القيم التي زُرِعت في عقول وقلوب الطلاب منذ الصغر، رأيتها في الشارع والحدائق ومحال التسوق ووسائل النقل والساحات، رأيتها في التعامل بين الناس، فلا أحد يغتاب أحدا، ولا أحد يتجاوز على غيره في أي شيء، أتحدث هنا عن المشهد العام وليس الحالات الاستثنائية التي قد يشذ فيها حدثٌ هنا أو آخر هناك، الطابع العام لحياتهم قائم على قيم أخلاقية دعا إليها الإسلام قبل مئات السنين.
في إحدى المدن كانوا يدرّسون سيرة الإمام علي عليه السلام، وخاصة ما جاء في كتابه إلى مالك الأشتر، وتلك المقولة التي اعتمدها العالم في حقوق الإنسان التي قالها الإمام عليه السلام: الناس صنفان، أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق. هكذا كانوا يوظفون القيم العظيمة لصالح بناء أنفسهم ودولهم. وكانوا يحثون الجميع على الانجاز حتى أخر لحظة من حياتهم.
انتهزت الفرصة مرة أخرى وسألتُ الرجل المحال على التقاعد: هل ستبقى جليس البيت بعد اليوم؟، فأجاب بسرعة كأنه شعر بالاستفزاز:
محال أبقى جليس البيت، أنا لم أُخلق كي أكون عالة على أحد، كما أنني أمتلك من الخبرات والمهارات ما يؤهلني للعمل إلى سنوات قادمة، فصحتي جيدة كما ترى، وقواي متكاملة، ورغبتي في العمل لا حدود لها، ثم أنني أخاف الكسل والخمول أكثر من أي شيء آخر، إنه كمن يقتل نفسه بنفسه!.
وحين سألته: لقد أخرجوك من التعليم عنوة بحجة السنّ التقاعدي؟ قال:
- سأواصل العمل حتى آخر لحظة من حياتي، وإذا أُغلِقت أبواب التدريس والتعليم بوجهي، بحجة التقاعد، وهي حجة واهية وغير سليمة، فإنني سأحرص على العمل في المكان الذي يناسب خبراتي ومؤهلاتي العلمية والجسدية حتى آخر يوم من حياتي!!.
اضف تعليق