يتميز الانسان عن سائر الكائنات الحيّة بقدراته المتعددة على التغيير والتطوير والتأثير على المحيط الخارجي، بينما نلاحظ حيوان مثل "الفأر" الذي يعيش مسكوناً بالخوف على طول الخط، فهو غير قادر على تقمّص الشجاعة يوماً، كذلك الشجرة، اذا مورقة ومثمرة، هل تتمكن من نقل حالها الى شجرة أخرى يابسة قريبة منها؟ بينما نلاحظ إنسان اليوم -وكل يوم- يسخّر الطبيعة والعقل، فيصنع ويبتكر ويتحكم في كل شيء في الحياة – الى حدٍ ما طبعاً-.
وقد أقرّ علماء الاجتماع بقدرة الانسان على أن يكون ذكياً أو شجاعاً، وأن وجود من يولد ذكياً او شجاعاً أو كريماً، ليست حالة عامة، إنما العامل التربوي والمحيط الذي يعيشه له التأثير الكبير في تكوين هذه الحالات والصفات. وفي الخطاب الديني، لدينا مفهوم "الابتلاء" و"الفتنة" التي يبينها القرآن الكريم، في آيات عديدة، حيث يعد وجود الانسان في هذه الحياة، بانه "فتنة" أو "بلاء"، وذهب معظم المفسرين الى أن المفهومين يمثلان بالحقيقة، عملية تمحيص واختبار لقابلية الانسان على الرقي والتكامل. ثم تكتمل المعادلة في مفهوم "الجزاء"، وأن الانسان يثاب ويجازى الجزاء الأوفى في الحياة الآخرة، على ما يبذله من جهد لخدمة نفسه والآخرين في الحياة الدنيا.
من هنا؛ فان النجاح والفشل مرتبط في جزء كبير منه، بمعادلة كونية عظمى، من الطبيعي ان يواكبها الانسان الطامح نحو النجاح والتقدم. فالقابلية المكنونة في النفس، هي التي تحدد مدى تحقيق النجاح، وهي التي تحدد حجم القدرة والامكانية التي يمتلكها الانسان. هذه الحقيقة يشير اليها القرآن الكريم: {أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها}، فاذا كانت الارض او الأدوية تحمل من ماء المطر بنفس القدر الذي تحمله لا أكثر، فان الانسان له من القابليات لاستيعاب وتطوير قدرات هائلة في نفسه، بشرط تنمية هذه القابليات وتوسيعها وإعدادها بالشكل الصحيح.
وهنالك عوامل كثيرة لتنمية القابليات، منها نفسية في داخل الانسان، ومنها عوامل خارجية، نشير الى بعضها:
الاول: المطالعة
وهي توصية يطلقها كل مهتم بالشأن الثقافي والفكري لمزيد من الوعي والتنمية الذهنية، وتوسيع آفاق المعرفة. ويؤكد المهتمون على أن المطالعة من سمات الشعوب المتحضرة والمتطورة، مثل الشعب الياباني والصيني اضافة الى شعوب غربية، ثم ان المطالعة الهادفة وليست باتجاه الترف الفكري، هي التي من شأنها ان تكشف الحقائق وتفسر الظواهر الكونية والانسانية، وتبين للانسان علّة وجوده في الحياة، وما يجب عليه أن يكون، فتتولد لديه دوافع النمو والتطور بناءً على حاجة يجدها في نفسه ودورٌ ينتظره.
هنا؛ يكون لبرنامج المطالعة التأثير الحاسم في تنمية القابليات، فهنالك المطالعة في التاريخ والدين والفكر الانساني، من شأنها ان تفتح أمام الانسان آفاقاً معرفية وعلمية تمكنه من تغيير ذاته وايضاً واقعه على ضوء الحقائق التي يتوصل اليها.
الثاني: تجارب الآخرين
وذلك في كيفية وصولهم الى مراقي التطور العلمي الذي نعيشه اليوم ونشعر بمدى حاجتنا اليومية لهذا التطور في مجالات شتى. فهنالك التجارب العملية والدراسات والبحوث التي قاموا بها وعلى ضوئها توصلوا الى حقائق ومكاسب كبيرة، وليس بالضرورة أن تكون البداية في أمور كبيرة، فليس المطلوب منّا اليوم إطلاق الاقمار الصناعية او النزول على سطح القمر او منافسة الشركات النفطية ومهندسي الطرق والجسور وناطحات السحاب، وإن كان كل ذلك وغيره، أمر مطلوب على المدى البعيد، بيد أن هنالك التخطيط والإدارة – مثلاً- التي تمثل البنية التحتية لأي بناء ناجح في الدولة. وهذه بحد ذاتها تسلّط الضوء على القابليات الموجودة لدينا، واختبار القوة فيها على التطور والتوسع في مجالات عديدة نحتاجها اليوم، مثل التعليم والصحة وتطوير الانتاج والاكتفاء الذاتي. فالذي يتعلم المنهج الصحيح في التعليم وفي الصحة، بمختلف تشعباتها؛ النفسية والمجتمعية والبيئية، وايضاً يتعلم كيف ينتج وكيف يستهلك؟ سيكون بامكانه الاستفادة من التجارب العلمية التي توصل اليها الآخرون.
الثالث: الحالة الايجابية
فالذي يريد تنمية قابلياته على طريق التغيير والتطوير، عليه - بالضرورة- ان يعطيها زخماً معنوياً تساعده على النمو، ومن ذلك؛ الثقة بالنفس وتكريس روح الأمل والشعور بالمسؤولية إزاء الآخرين، وغيرها من القيم الايجابية ذات البعد الانساني، من شأنها ان تخلق دوافعاً وأسباباً قوية تشعر الانسان بأن تنمية قابلياته في شتى الميادين إنما هو بالحقيقة حاجة اجتماعية وحضارية، اضافة الى كونها مطلباً فردياً خاصاً به. فإذا حصل وأن حقق شيئاً من النجاح في مسيرته العلمية او المهنية، بفضل قابلياته الخلاقة، فانه قد خدم نفسه، كما أسدى خدمة لأبناء شعبه، تضاف الى خدمات تمثل عناصر للتقدم والرقي في الامة.
اضف تعليق