صرتُ أتنافس مع أعداد كبيرة في العراق كلّه، يتقنون اللغة العربية، ويدخلون في كتابة الأدب، وهذا يكشف لنا مدى حرص المعلمين والمدرسين بالأمس، على تطوير طلابهم، وهو في ذات الوقت، يلقي اليوم مسؤولية كبيرة على عاتق المدرسين كي يواصلوا رحلتهم التعليمية بأساليب مبتكرة لغرس محبة العلم والتعليم...
كما في كل يوم دراسيّ، دخل علينا مدرِّس اللغة العربية هذا الصباح، أنيقاً كعادته، بوجهِ مشرق تشعُّ منه العافية، عطرهُ الأخّاذ انتشر في الصف، وبعد أن ألقى علينا تحية الصباح مباشرة، أشار بيده نحوي وقال:
- هيّا أيها المعميل قُمْ وأجب عن سؤالي....
هذه هي بدايته في كل درس، حتى أن طلبة الصف جميعهم أصبحوا ينادوني بـ المعميل وتركوا اسمي الأصلي جانبا، مضى شهور على هذه التسمية (المعميل) التي أطلقها عليَّ مدرِّس اللغة العربية، في البداية كنتُ أشعر منها بالحرج الكبير، لاسيما أن المدرّس يبدأ درسه بي دائما فيقول (قمْ أيها المعميل وأجب عن سؤالي)؟؟
أما سبب إطلاقه هذه التسمية عليَّ فقد فسَّرها لنا في الصف ذات يوم وقال: أتعرفون لماذا سمَّيتُ زميلكم بالمعميل؟، ثم التفتَ إليَّ وقال: علاماتك في الامتحانات قليلة جدا، ونشاطك اليوميّ في الدرس ضعيف، لهذا أطلقتُ عليك هذه التسمية وصرتُ أسألكَ أول الطلاب كي تطوّر نفسكَ.
لهذا السبب أصبحتُ معميلا لمدرّس اللغة العربية، وهذا ما دفعني بقوة لإثبات العكس، فبسبب هذه المفردة التي كانت تحرجني أمام طلاب الصفّ، بدأت أطوّر نفسي في قواعد اللغة العربية وأخذتُ أركّز كثيرا على هذا الدرس على حساب اللهو واللعب مع أقراني، واختصرت اللعب من 5 ساعات إلى ساعة واحدة، وأربع ساعات أخذتُ أخصصُّ القسم الأكبر منها على حفظ وقراءة وإتقان قواعد اللغة العربية، بل حتى الدروس الأخرى التي أهملْتها بدأتُ أخصصُّ لها وقتا للمطالعة والحفظ، ويوما بعد آخر بدأتْ علاماتي ترتفع في الامتحانات، وأخذ نشاطي اليومي يتطوّر درساً بعد آخر، لكي أتخلّصَ من الإحراج، وأخيرا في أواخر السنة الدراسية كانت درجتي في امتحان اللغة العربية هي الأعلى بين جميع الطلاب، هنا تكلّم معنا مدرّس اللغة العربية قائلا:
عندما أطلقتُ كلمة المعميل على زميلكم في الصف، (يقصدني أنا)، لم يكن هدفي إحراجه أو التقليل من قيمته ودوره في الصف، بل كان الهدف هو الضغط عليه حتى يدخل المنافسة بقوة معكم، والآن كما ترون النتيجة، فقد حصل على أعلى درجة من بينكم، بل حتى درجاته في الدروس الأخرى تحسنت.
ومن حسن الحظ أنني بدأت أرغب بقراءة الكتب خارج مناهج الدراسة، فبفضل هذا المدرس تكوّنت عندي رغبة شديدة للقراءة، وصرتُ أقرأُ الشعر والقصص وحتى الروايات، بل تحوّلتُ من رغبة القراءة إلى تجريب الكتابة، ومع مرور السنوات تراكمت التجربة وتطورت، لأدخل مجال نشر القصص والنشاط الأدبي.
بعد سنوات طويلة تقدم بنا العمر، ودخلتُ في مجال العمل الأدبي وصرتُ رئيساً لإحدى المنظمات الأدبية، وأقمتُ بالتعاون مع أصدقائي من الهيأة الإدارية برنامجا أدبيا نقيم في أمسيات مخصصة للنقد والقصة والشعر، فيحضر جمهور نوعي محب للأدب، واستمر عملنا الأسبوعي على هذه الشاكلة، وذات يوم في إحدى الأمسيات المخصصة لي، فوجئتُ بأستاذي في اللغة العربية يحضر الأمسية، كانت المفاجأة قوية، فالزمن الفاصل بين مرحلة (المعميل) وإقامة هذه الأمسية طويل استغرق أكثر من أربعين سنة، وفي لحظة دخول المدرّس للأمسية أسعفتني الذاكرة فعرفتهُ، لكنه لم يعرف بأنني تلميذه القديم الذي كان يسمّيني بـ (المعميل)، وحين جلس الجمهور وبدأتْ الأمسية وحان حديثي، بدأتُ مرحّبا بأستاذي وأخبرتهُ بأنني تلميذه القديم الذي أطلق عليه تسمية (المعميل).
تبسّم المدرّس وأخذتهُ رحلةٌ طويلة في رحاب الذاكرة، كنتُ أراه مستغرقاً في تفكير عميق، لعله بدأ يستعيد تلك الدروس وذلك الاسم (المعميل) الذي لم يغادر الذاكرة، وبعد انتهاء الأمسية فتح ذراعيه وأخذني بالأحضان، وفي دائرة تكونت من الأدباء الحضور، أخذ يسترجع تلك الأيام وتلك الدروس، وقال مخاطبا إيايَ بشيء من الفكاهة والجِّد:
لم تكن وحدك الذي دعوتُهُ بـ (المعميل) هنالك العديد من الطلاب حصلوا على هذه التسمية، وكنتُ ابتغي منها وضع الطالب في زاوية محرجة، وأضغط عليه بشكل يومي، ولا أتركهُ حتى يصل إلى درجة متقدمة من إتقان الدرس، كل أستاذ وكل معلّم وتدريسي كانت لديه أفكاره وأساليبه في تطوير الطلاب.
وهذه الطريقة هي إحدى الطرق التي سعيت من خلالها إلى غرس محبة العلم والتعليم في قلوب الطلاب، والمهم من وراء ذلك هو حرصنا على تحويل الطالب من كراهية الدراسة والعلم إلى التميّز من خلال استفزاز قدرات الطلاب وهي كبيرة جدا.
انتهى أستاذي من كلمته، واستذكرتُ كم كنت أشعر بالإحراج من تسميته لي بالمعميل، خصوصا في الأيام الأولى، لكنه مع الوقت زرع في داخلي نوعاً من التحدي والإصرار على أن أكون المتميز الأول في الصف والأعلى درجة في قواعد اللغة العربية كي أتحوّل من معميل إلى أحد الطلاب الأذكياء في الصف، ليس هذا فحسب بل خرج هذا التحدي من داخل حدود الصف إلى خارجه!!.
فصرتُ أتنافس مع أعداد كبيرة في العراق كلّه، يتقنون اللغة العربية، ويدخلون في كتابة الأدب، وهذا يكشف لنا مدى حرص المعلمين والمدرسين بالأمس، على تطوير طلابهم، وهو في ذات الوقت، يلقي اليوم مسؤولية كبيرة على عاتق المدرسين كي يواصلوا رحلتهم التعليمية بأساليب مبتكرة لغرس محبة العلم والتعليم في قلوب شباب اليوم وقادة المستقبل.
اضف تعليق