السلطة بكل أشكالها مهمة صعبة، لأنها ستجعلك في صراع شديد مع نفسك وأخلاقك والتزامك، السلطة فيها امتيازات كبيرة، منها النفوذ والقوة والأموال، وسوف تجعلك دائما أمام خيارات صعبة، بين أن تبقى شريفا ملتزما طموحاً بشرف وعدل، أو أن تنزلق إلى سبل الغش والخداع والانحراف...
كان فقير المظهر، مؤدّبا في أقواله وسلوكه، يصغرني بأكثر من عشر سنوات، كثيرا ما كان يقول لي بعد أن يشكرني ويشيد بي (أنت مثالي الأعلى)، وحينها أفرح في داخلي وأشكره وأضمّه إلى صدري وأسأله:
- لماذا أنا مثالك، هل هناك ما يستحق ذلك؟
يقول ونبرة الصدق تفوح من كلماته:
- تعلمتُ منك الصبر والكفاح من أجل النجاح.
اليوم صار ذلك الفتى رجلا، تجاوز عمره الثلاثين عاماً، جاءني ذات مرة مستشيرا لي وطالبا مساعدتي له في هدفه، استمعتُ له بتركيز، وعندي قرار مسبق بمساعدته في الرأي والمشورة، فهو رافق حياتي منذ سنوات عمره الأولى، وأنا على معرفة بالتزامه وأخلاقه، ليس الالتزام الديني فقط، وإنما الالتزام الإنساني الكبير الذي كان يتحلّى به، وكثيرا ما كنّا نتبادل الآراء، وكنتُ دائما أجد فيه ذلك الإنسان الطموح الخلوق الملتزم، ليس فقط تبادل مشاعر، بل كنت أرى بعيني وببصيرتي مواقفه والتزامه ورغبته بالتفوق لكن بأساليب مشروعة وعادلة.
اليوم جاءني إلى بيتي، رأيت في عينيه إصرارا على هدف محدّد، كان هذا الشاب سابقا والرجل الهُمام حاليا قد انتمى إلى أحد الأحزاب المعروفة بتاريخها وحجمها الكبير، وأخبرني بأنه يرغب بالترشيح إلى مجلس النواب ضمن تشكيلة ذلك الحزب الذي انتمى إليه، طلب مشورتي هل أوافقه على هدفه هذا أم أنصحه بانتهاج طريق آخر، الحقيقة وأنا أنظر في عينيه ووجهه شعرتُ بالفرح والارتياح، وأنا أفكّر مع نفسي بأنه إذا أصبح أحد قادة العراق تحت قبة البرلمان، فإنه سوف يكون في المكان الصحيح وسوف يساعد الناس على استرجاع حقوقها المهدورة، فأنا أعرفه جيدا وأعرف صدقه وإخلاصه وأخلاقه والتزامه الصارم.
قلت له صادقا:
- السلطة بكل أشكالها مهمة صعبة، لأنها ستجعلك في صراع شديد مع نفسك وأخلاقك والتزامك، السلطة فيها امتيازات كبيرة، منها النفوذ والقوة والأموال، وسوف تجعلك دائما أمام خيارات صعبة، بين أن تبقى شريفا ملتزما طموحاً بشرف وعدل، أو أن تنزلق إلى سبل الغش والخداع والانحراف، أنا أعرفك جيدا وأنت خارج السلطة، لكنني لم أجربك وأنت صاحب سلطة ونفوذ وبين يديك الكثير من المال العام!، هل فهمت ما أقصدهُ؟
أجاب بعد تأمّل وشيء من الحرج:
- أنت تعرفني جيدا، وربيّتني على التوازن والأخلاق العالية والعدل والالتزام، هل تظن أن السلطة والنفوذ والأموال سوف تجعلني إنسانا آخر؟
قلتُ له صادقا:
- لا يمكن أن أجيبك عن سؤالك بنعم أو لا، كثيرون كانوا ملتزمين خارج السلطة، لكنهم بعد أن دخلوا في دوّامة الحكم والامتيازات، وصارت الأموال أمام أعينهم وبين أيديهم، سقطوا في الاختبار، وانزلقوا إلى الحرام، وتورّطوا في صفقات مشبوهة كي يحصلوا على أموال، والمشكلة، أن من يتورّط بالمال الحرام لا يكّف عن ذلك، بل يسعى لتبرير أفعاله ويصبح هو الخصم والحكم في نفس الوقت.
قال مستغربا ومندهشاً:
- وهل تعتقد أنا من هذا النوع الذي يسيل لعابه أمام الفلوس والأموال العامة؟
قلتُ له:
- الفلوس تخرّب وتحطم النفوس!
أغضبه كلامي هذا، ونهض عاتبا عليّ، مؤكّدا أنه لا يمكن أن يضعف أو يخطئ، وخرج من بيتي كأنني أخطأت بحقه، لكنني ذكّرته قبل أن يخرج قائلا:
- احذر السلطة وامتيازاتها.
قلّة من الناس يتأمّلون أنفسهم ويتحكمون بنوازعها حيال المكاسب المالية، أولئك هم المؤمنون أصحاب الضمائر والنفوس التي تتشذّب وتتربّى على القيم النبيلة منذُ الطفولة، فالنفس المنفلتة تدفع بصاحبها للاستحواذ على المال بأية طريقة كانت، بعيدا عن أن تكون خطوة الكسب مشروعة أو خارج القانون والحقوق، النفس المنفلتة تجعل صاحبها ضعيفا أمام المال أو الفلوس، والمهم لدية كمية المال التي يحصل عليها وليس الطريقة أو أسلوب الحصول على المغانم.
ومما يُعدّ من المفارقات المؤسفة، أنّ المناضلين الذين يعارضون الأنظمة السياسية المستبّدة، يسقطون في اختبار الضمير حين تكون الثروات والأموال العامة بأيديهم وتحت تصرّفهم، هؤلاء الذين ثاروا ضد الظلم وغياب العدالة في توزيع الثروات، قد تجعلهم نفوسهم عبيدا للأموال والنفوذ والسلطة.
هذا ما حصل للأسف مع أشخاص نعرف أخلاقهم والتزامهم حين كانوا خارج السلطة، لكنهم ما أن صار الحكم تحت قبضتهم، والأموال بين أيديهم وتحت تصرفهم، حتى انزلقوا ودخلوا الحرام من أوسع أبوابه، حتى الشخص الذي زارني طالبا الدعم والمشورة، وخرج غاضبا من بيتي، لم يستطع أن يُبعِدَ نفسه عن الزلل، وصار واضحا لكل من يعرفه، أنه بات شخصا مختلفا، لا يشبه ذلك الشاب الملتزم والمناصر للإنسان.
إنه سقط للأسف في فخ السلطة وامتيازاتها، وحين كنّا نلتقي - بعد وصوله للسلطة- في مناسبات اجتماعية (أعراس، أو مآتم)، يحاول أن يبتعد عني بل لا ينظر في عينيّ، لكنني كنت أسمع كلامه عن المشاريع الكبيرة والشركات وحصد الأرباح الهائلة، كانت نظرتي الأخيرة لسيارته الفخمة ولكرشهِ الذي بات كبيرا يتقدّم جسده بقوة محشوّا بالأموال والفلوس التي تحطّم النفوس!!!.
اضف تعليق